السبت، 10 مايو 2014

الكتابة كملاذ أخير..


فعل الكتابة، هذا الذي بلا جدوي، هو وحده ما يستطيع أن يمنح الحياة معني.
*كارلوس ليسكانو
I
ليسكانو الذي اكتشفته قريباً ـ ربما مصادفةً ـ كانَ يكتب خلال محبسه لمدة اثنتي عشرة ساعة في اليوم.. بدءَ الأمرُ كالتالي: الشاب الثوري المناضل ينضم إلي تنظيم يساري يسعي لاسقاط الحكم الديكتاتوري العسكري، حكم علي ليسكانو المناضل بعشرين سنة سجن. حاول ليسكانو ـ لتخفيف وطأة السجن ـ أن يدرس الرياضيات، وفي لحظةٍ ما قرر: سأصبحُ كاتباً.

لم يكن متاحاً لليسكانو في المعتقل أياً من أدوات الكتابة، لذا قرر ليسكانو: سأكتب الرواية في خيالي. بدء ليسكانو الكتابة في خياله، كان يجلسُ لساعات طويلة يتأمل روايته، شخصياته التي يكتبها في مخيلته، الزمان والوقائع، الدراما: الحب والموت، السعي نحو الكمال.

أتيحت لليسكانو الأوراق بعد شهور، ولمدة خمس سنوات كان ليسكانو يكتب يومياً12ساعة. الكتابة بالنسبة لليسكانو، حياة..وميلاد تام. في تصديره لكتابه"الكاتب والآخر" كتب ليسكانو: إنM ـ شخصية روايتة الأولي: قصر الطاغية ـ هو من ابتكرني، وقد ابتكرني في الظلمة.

فرَّغ ليسكانو كل ما كتبه في مخيلته علي الورق، حين تم العفو العام في الأوروغواي عام 1984 كان ليسكانو حراً، كتب ليسكانو: حين سألوني ماذا أحتاج ـ عندما خرجت من السجن ـ كنت في الواقع في حاجة لكل شئ: الملابس والعمل والدفء والحنان خاصة، رغم أني لم أكن اشعر بذلك أجبتهم باني أريد آلة كاتبة. 


عند ليسكانو بالطبع ما يحكيه، إذ أنه وبعد خروجه من السجن كانَ يقابل ـ لفرط الدهشة ـ جلاديه، الضابط الذي كان يعذبه يجدهُ متمشياً في شوارع مونتيفيديو، الجندي الذي كانَ يزعق فيه برقمه لكي يأخذه إلي صالة التعذيب يجده متنزهاً في متنزهات العاصمة، في إحدي المرات حكي عن زميله الذي لم يعرف اسمه والذي كان يتشارك معه التعذيب داخل المعتقل، عندما قابله وجلس مع زوجته وأولاده، قال أنهما لم يتحدثا في أيّ شئ عما حدث لهما خلال السجن.
بتصفح ضئيل لما يكتب ليسكانو، سنكتشف أن الرجل لم يكن يملكُ شيئاً في حياته سوي الكتابة/عملية الميلاد والاكتشاف معاً. خلال الكتابة لا بدَّ وأن تولد، مرة أخري، وأن تتألم، وأن تحبّ، في كلّ لحظة.

الكتابة كانت ملاذاً أخيراً لدي ليسكانو، عندما أتصفح ـ بغريزة صحفية ـ حياة الأدباء/الكتاب/الشعراء أتفهم لماذا كانوا يكتبون، الأكثر منهم لم يكن يملك شيئاً سوي الكتابة، الذين انتحروا منهم ،علي سبيل المثال لا الحصر:


أروي صالح انتحرت بعد طبع المبتسرون، فرجينيا وولف بعد روايتها الأخيرة بوقت قليل قامت بتحميل معطفها بالحجارة ورمت نفسها في البحر، وإرنست همنجواي بعد العجوز والبحر ـ التي تنضح بالأمل ـ وبعد نوبل أطلق الرصاص من بندقيته علي رأسه(القائمة تطول).

II
لماذا أكتب؟ لأن عندي ما أحكيه.

أستطيع من خلال الحكاية أن أسمع صوت قلبي(حقاً) أستطيعُ أن أتمرسَ علي الحبّ(حقاً) في الكتابة أولد من جديد. خلال الكتابة أنا حقاً أبحر في بحر لا نهائيّ، حيثُ أنني وخلال الكتابة لا أعلم حقاً ما هي الجملة أو الفقرة القادمة، لا أعلم حتي الحرف التالي، كل ما أفعله أنني أتركُ قلبي لينساب علي الورق.

خلال الكتابة، أستطيع أن أخبرَ عن أخي حمزة الذي يثبتُ لي كلّ يوم : ويفوزُ باللذاتِ كل مغامرِ، وأنهُ أيضاً لا يجب أن نكون شيوخاً لكي نؤمن بالله حقاً. وسأحكي عن الحكايات التي حكاها لي، عن تاجر المخدرات الذي يحملُ روحه علي كفه حقاً وهو يمشي بهيروين ليسلمه لزبائنه، وعن نفس التاجر حين يصدر الحكم عليه بثمان سنوات في السجن كيف تلقي الحكم وكيف أنه لم يهتز مثلاً.(وسأحكي عني الآن وأنا أكتب)

خلال الكتابة سأحكي عنِّي، عن تجاربي التي لن تنتهي إلا بالموت(ككل البشر)، عن الوجع والمحبة والاشتياق ـ المتفجر دوماً ـ حين يفتت القلب تفتيتاً والجمال حين يجعلني أبكي(حقاً). سأكتب لأنني لا زلتُ أشعرُ بالجمال ينسربُ داخل قلبي بلا أية مقاومة مني، وحتي إن كنتُ أشعرُ بالقبح فسأظلّ أكتب لأن هذا ما أجيده، لأن الكتابة ستشعرني بالجمال.(لحظات أخري تشعرني الكتابة بالشغف بالفعل)
هنا، لن أكونَ مضطراً ـ مثلاً ـ أن أحكي وبشكلٍ مباشر عن الألم مثلاً، أو الافتقاد، سأتركُ لنفسي العنان لتكتب عن كل ما تشعر به. هنا وأنا أرمي قلبي علي الأوراق حكياً، أستطيع أن أقول لشخصٍ ما أحبه ـ قد يقرءُ ما أكتب في رواية أو قصة بعد عشرات السنين مثلاً ـ أنه لم يغادرني أبداً، أنني لم أتوقف لحظةً عن محبته، وأنني لم أنسه لحظة.. وأنهُ لا زال يتملَّكُ قلبي.

مثلاً أستطيع أن أخبر صديقاً ما كيفَ كنت أنظر إليه، من خلال رسم شخصيته في قصة.. أستطيع أن أخبر عن هذا الشاب الذي كان يقفُ في جنازة خاله ـ مكللاً بالحزن والألم ـ وظلّ يراقبُ الناس كيف يشعرون بالموت، سأحكي أنهُ وهو يبكي في موقفٍ جنائزيّ وهو يدفن خاله كيف أنه وللحظةٍ ما خرجَ الكاتب من داخله، ليراقب الناس وكيف كان وقع الموت البارد علي قلوب أبناءه/اخوته/وحتي الناس العاديون: أصدقاء أبنائه مثلاً. وأحكي عن موقفٍ رأيته ونسجتُ من خلاله قصة كاملة بماضيها وحاضرها.

أستطيعُ من خلال الكتابة ـ كما المحبة ـ أن أولد وأولد بلا توقف، لأن كل نص أكتبه يجعلني أكتشفُ جزءاً من ذاتي ويشعرني بالسعادة، بعض النصوص أمتلك لها حميميةً خاصة جداً، في لحظاتٍ كثيرة ـ ولأنني لا أكتبُ كثيراً بالفعل ـ أفتحُ بعض النصوص لأقرئني، هذا أنا، عارياً تماماً وبلا أيّ زيف، بلا أية ملابس بالفعل.

الكتابة كالمحبة والألم تماماً ـ أستطيعُ هنا أن أسجل أعجابي الشديد بخط حبيبتي وأنني أظل أتأمله لدقائق وكأنني أتأملُ وجهها، في خط حبيبتي جزء ما من روحها يحتاجُ لقلبٍ محب يكتشفه في الخط ـ تلدني، أو لأكون أكثرَ دقة: ألدني من خلالها.

بخلاف الكثير ممن أعرفهم، لا أكتبُ أبداً وأنا سئ المزاج، عندما أكتب، أتجهز للكتابة تماماً، لأن الكتابة ستكون جزءاً مني، عندما أكتب يجب أن يعلو صوت قلبي قبل أي صوتٍ آخر، صوت العالم/العمل/الزمن/المكان/البشر، يجب أن يختفي كل شئ، وأن أسمع نفسي ـ أنا الآن لا أدركُ ما أكتب ادراكاً تاماً ولا أعرفُ عما تتحدث الفقرة السابقة، كل ما في الأمر أني أتركُ شلال قلبي ـ .

III
إحدي صديقاتي كتبت روايةً أولي، أنهتها وبدأت في الثانية، وحين أنهت تلك الأخيرة بدأت في الثالثة. أذكرُ أنني نصحتها يوماً أنها يجب أن تتوقف بعد كل رواية قليلاً لتستوعب الرواية تماماً وتعيشها حقاً بعد أن عاشتها مرة وهي تكتبها، قالت: مش بإيدي يا عبد الرحمن، مش بعرف أوقف الكتابة.

هذا هو الأمر بالتحديد، الكتابة كالشلال تماماً، وتشبه الحبّ والولادة، حين قرأتُ الرواية الأولي لصديقتي، أذكرُ أنها لم تعجبني، ولم أكملها حتي. في الرواية الثانية كنتُ أسمعها حقاً، هذه الرواية كتبت عن تجربة كاملة، عن ميلادٍ تام، مرت بالتجربة وكتبت تجربتها، لقد عاشت تجربتها مرةً أخري، هذه المرة بالنظر من أعلي، لأنها تسمعُ وجيب قلبها وهي تكتب تماماً دون كل المؤثرات التي تؤثر علي حياتنا وتشوشها.

(يري صديقي أن بهاء طاهر كاتب يكره شخصياته الروائية، وبغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي، أنا لم أكره شخصاً أبداً كتبت عنه في قصة)

في الكتابة أخرجُ من تشوشي تماماً، وأشعرُ بالعافية بعد خروجي من كتابة نصّ، في الرواية الأولي ـ السابقة الذكر ـ ولدت الفتاة ميلاداً ما، ربما لم يكتمل، استطاعت أن تولد مرةً أخري أكثر اكتمالاً في روايتها الأخيرة، الفقرات كانت جيدة ومتناسقة، القصة إلي حدٍ كبير تستطيع أن تجذبني لأعرف ماذا حدث بعذ هذه الصفحة أو ذاك الحدث.

في النصّ، أستطيع ان أحبّ تماماً، أستطيع أن أخبر حبيبتي، كم هي جميلة، ليس من خلال أن أقول: أنتِ جميلة، ربما من خلال أن أكتب مثلاً عن الأجنحة المتكسرة أو النبيّ لجبران طبعة بيروت، أو عن الأمير الذي مات من جمال الفتاة الجميلة"لونا".

لعل ما يعطيني مساحةً أكبر في النصّ، أنه يخرج من صوت قلبي، تستطيع حبيبتي من خلالها أن تشعر بصدقي تماماً، أستطيع في الكتابة أن أوصل ما لا أستطيع إيصاله بالكلام.

مثلاً، هنالكَ شئٌ ما لا أعلمهُ إلا أنا وصديقتي، عندما تجدُ هذه العلامة في قصةٍ ما كتبتها، ستعرفُ حقاً كيفَ تحتل المساحة الأكبر من حياتي، ستستطيع"لونا تك" أن تقرء نفسها وجمالها من خلال قصتي الأخيرة التي لم أنشرها، تستطيع أن تعرفني أكثر من خلال قصصي(لأنني في القصص بالتحديد لا أرسمُ نهايات القصة ولا حتي تفاصيلها، كل ما يحدث أن الفكرة تكون موجودة وأسمع قلبي يقول أكتب: فأتبعهُ وأكتب).

في الكتابة، ميلاد، كما المحبة بالفعل(ليس مجازاً) وحقيقةً لأنني أكونُ عارياً تماماً عندما أكتب، لأنني وحين أسمعُ نداء الكتابة، أقومُ من حالي، وأستحمّ، وأكونُ عارياً تماماً، وأنا أسمعُ هذا النداء الخارجي/الداخلي لقطرات الماء، أغمضُ عينيّ وأتركني تماماً، ربما لنصف ساعة، لا أتنشف وأخرجُ مرتدياً قطعةً واحدة علي جسدي، نظارتي بالطبع، وأكتب.. ليخرجَ نصاً أحبهُ من جديد، كهذا النصّ، كانت فكرته تختمرُ في رأسي منذُ شهور.

10/5/2013
05:49 عصراً 

هناك تعليق واحد: