الاثنين، 20 يناير 2014

ثلاثة مقاطع عن الوَحدة .


I
"كلٌّ منا يا إيلينا، يختارُ جحيمهُ الخَاص،ذلكَ الجحيم الذي يجد نفسه فيه أكثر راحة"

منذُ فترة وداخلي صوتٌ يردد" لو أنَّ خوان خوسية مياس اطلعَ علي حكايتي لربما استبدلها بحكاية إيلينا".

من بين كل المشاعر استولت الوَحدة علي تفكير ميَّاس، ليكتب عنها. هذه الطريقة في الكتابة تمتعني بشكلٍ خاص. يعجبني في أدب ميلان كونديرا أنه يختارُ قيمةً ما، وينسجُ عليها روايته: الضحك والنسيان/الهوية/الخلود/البطء، وهكذا.
لم اقرء لميَّاس كثيراً، هذه الرواية فقط"هكذا كانت الوَحدَة". حازت إعجابي رغم أن الترجمة رديئة بعض الشئ. لكنَّ القصة عميقة للغاية.
إيلينا كانت وحيدة، أو بالأحري متوحدة لدرجة مأساوية، لم تعد تبالي بشئ، حتي عندما علمت أن زوجها وحبيبها منذُ الشباب يخونها.. ببساطة شديدة تعاملت كما لو أنَّ الأمر لا يعنيها.
أعتقد أنه في ممارسة الوَحدة نوع من التشفِّي في النفس، فيما فرطت فيه بالتحديد مما مضي، ونوع من اللامبالاة، والمواجهة المريرة مع الذات. إيلينا استأجرت تحرياً خاصاً يكتب لها تقارير عن زوجها. سرعان ما ملَّت من هذه التقارير. كانت بحاجة أكثر إلي أن تعرف نفسها"تواجها ذاتها".
طلبت من التحريّ أنْ يكتب تقاريراً عنها هيّ، بذاتها. ربما كانت تحتاج هذا النوع من أن تري نفسها: بمرآه . عندما صاح فيها أخوها، أنه لم يعد يفهمها. بل إنه بالأساس لم يكن يفهمها منذ شبابها. لم تفاجأ. هي كانت لا تعرفُ نفسها بالأساسْ. واحتاجت لكي تعرف نفسها، أن تخسر حياتها.
فكرتُ مراراً، أنَّ هذا الشعور بالوحدة، ناتجٌ بالأساس من حالة افتقاد شديد. افتقاد لشئٍ ما/احتياج. أفكرُ كثيراً(ولا أستطيع أن أجرب لأني لم أحطم أصنامي بعد) ماذا لو أنني لستُ محتاجاً لشئ؟ إنها حالة من الانعتاق الذي لن يُجرب. ألا تملكَ شيئاً وألا يملككَ شئْ. أعتقد أنها حالة غارقة في الرومانسية، لكنها الحقيقة: إذا لم نحتج شيئاً، لن نتوجع.
ببساطة: الوحدة، ضياع شئْ ما. انكسار/وجع/خوف/قلق. لتتخلص من كلّ هذا قد يكون مجدياً أن تتخلص من كلّ شئْ تمتلكه أو يمتلككْ. من خلال طريقتين:
أ‌.         إما أن تترك كل شئْ، وتذهب. أن تطلِّقَ كل ما بداخلك. وتبدأ من جديد. لكنَّ تحقيق هذا يظلُّ صعباً. أعتقد أن ملكيتك للأشياء وملكيتها لك تخضع للقلب. لو أنها ليست مستحوذة علي قلبك لن تستعبدك.
ب‌.     أن تمرِّسَ قلبَكَ علي الفقدانْ. أن تقلل قيمة الأشياء من حيث استحواذها عليه.

بالنسبة لإيلينا، كلفتها معرفة ذاتها بيتها وزوجها.
لكلّ إنسان في حالة وَحدته/افتقاده شئٌ ما يصادقه/يؤنسه. اختارت إيلينا الحشيش، كانت بينهما علاقة ممتدة لسنوات. والناس في هذا علي مذاهب، بعضهم يهربُ للأدب/الموسيقي/الرسم/السينما....إلخ. وحين ينتهي كل شئ، سيصادق ذاته. حين فهمت إيلينا نفسها لم تعد تأبه للحشيشْ. صارت مكتفيةً بذاتها.(ما أصعب هذا الشعور)
في الاقتباس السابق، عن الجحيم الخاص. هل كان يقصد مياس،أنَّ كلٌّ منا يمتلكهُ شئ ما/يملكُ شيئاً ما يخافُ أن يفقده، ولهذا يعيش في جحيم مستمر؟
II
"تَقَدَّم وهو لا يدري إلي أين؟وتراجع دونَ أن يدري لماذا؟"

لربما لخص المنسي قنديل في هذه الجملة حالة الإنسان الوحيد. لا يدري إلي أين ولا يعرفُ لماذا؟ نفس الدائرة المفرغة"اكتشاف الذات/تحمُّل النفس دون وجعٍ أو مللْ". لطالما كانت صديقتي الجميلة تقولُ لي"يا عبدو متعدش متردد كتير، خد قرار واعمل حاجة. واتحمل نتيجتها، بس اقتل التردد". رغم اعتراضي الشديد علي رأيها، إلا أنني في أوقات كثيرة أستحضرُ عينيها وهي تقولُ هذا وأفعل كما قالت.
كانت شخصية عليّ، شخصية المنسي قنديل ذاته. طبيب، كلية طب المنصورة، يحبّ الشعر. وجيل عبد الناصر. أنا أعتقد أن شخصية الراوي/أي راوي تختبئ داخل النص طوال الوقت.
كانت شخصية علي، تمثيلٌ كامل لمعني الوحدة. ربما أكثرَ من إيلينا نفسها في رواية مياس. الشئ المختلف بينهما، الزائد علي عليّ أن وحدته لم تكن فقط لأجل أنه لم يكتشف ذاته، لا، بل كانت بسبب هذا الحبّ المربك لفاطمة. هذه الطريقة المازوخية التي يتعامل بها معها. وهذا الكبرياء ـ الذي هو من تكوين الشخصية ـ في شخص فاطمة.
كانت فاطمة، تغيبُ وتعود، ربما بالسنوات، لكنها تعود. وما بينَ هذا الذهاب والعودة، يتمزقُ عليّ. هو يتقدم دوماً ولا يدري لأين؟ لم يكن لهُ هدف باعتباره إنساناً له حلم ذاتيّ، لا شئَ ينمو داخله. ويتراجع في اللحظة الأخيرة دونَ أن يدري لماذا؟. هذه الحالة من التشتت كانت كفيلة بأن تضيعه تماماً. لم يظفر بفاطمة، ولا ببديلتها: سلوي.
الوحدة/انكسارُ الروح ـ وعنوانها وحده يحملُ الأسي كله ـ تطلّ من كل شخصيات المنسي قنديل تقريباً في الرواية،. إلا فاطمة. فاطمة كانت مكتملة، لا تحتاجُ شيئاً، وحينما اضطرت لتطلب النقود من عليّ، بكت كثيراً، رغم أنها تعلمْ أنهُ لن يعايرها بشئْ. في النهاية لم تأخذ النقود.(نفس الكبرياء يمنعها من العودة معه لبيته عندما ستتحول لعاهرة)
يظلّ انكسار فاطمة، ليس وليداً من ذاتها، عينيها دوماً كانتا ألقتان، لامعتان، لكنَّ النكسة، وموت أبيها وأخيها وتشردها، هو ما كسرها. لم تكنْ وحيدةً بحال من الأحوال، كانت مكتفية بذاتها.
الشخصية الأكثر وحدةً وافتقاداً، كان ذلك الرجل حارس الكوبري. الذي يبحثُ عمنْ يقاسمهُ كوبَ شايْ. يبحثُ عن من يؤنسه. لا زوجه أو أولاد، فقط يتبصصُ علي العاشقيْن وهما يقبلان بعضهما ويحتضنان الرغبة والشوق بين جسديهما. وحين يكتشفاه ويهمَّا بالهرب. يرفعُ يدهُ ويتوسل: بالله عليكما لا تذهبا، لا تخافا، بالله ابقيا قليلاً.
لم يكن هذا الحارس يطلب سوي: المؤانسة. كان يطلبُ منهما أن يخدمهما، يحضرُ لهما كوبا شاي ويبادلهما أطراف الحديث، ويحدثهما أنّ: الجميعُ يأتونَ إلي هنا ويمضون، أراهم جميعاً، ولا أحدَ يراني أنا حارس الكوبري العجوز، وهم يحسبون أنني مجرد عارضة حديدية صمَّاء.
هذا التردد المقيت، الفشل الذريع في تحقيق شئ ما في الحياة. بالتحديد الفكرة في المقطع السابق: أنه يملككَ شئْ.
(أسري ما نحبّ، وما نريد، وما نكون)
الرواية مؤلمة لدرجة شديدة، لم أتوسل لأحد وانا أقرء توسلي للمنسي قنديل، أن يتمّ حكايتهما، عليّ وفاطمة. وأنا اقرء ـ لفرط دخولي في الرواية وتشابهي مع بعض ملامح عليّ ـ كنتُ أشعرُ أحياناً أن ما يحدث قد حدثَ لي قبل ذلك، في حالة تشبه الديجافو.
لخَّصَ المنسي قنديل، كلّ شئْ بالنسبة لي، وهو يقول، علي لسان عليّ :
اكتشفتُ فجأةً أنني متفردٌ لحدٍ مُخيف، لا أَنتَمي لأيّ شئْ، لا لأسرة ولا جماعة ولا شلَّة، منذُ أن قالت لي أمي: عندما يبدءون النشاط نم أنت. وأنا اسيرُ كالمُنَوَّم عميقاً، أحملُ أحزاني الشخصية بلا أي أُلفة.
بلا أي ألفة.

III

"س:ماذا تفعل من الصباح إلي المساء؟
 ج: أتحمَّلُ نَفسِيْ." *إميل سيوران.


نفس الإرباك، مواجهة الذات. محاولة استكناهها. ليسَ هناك قاعدة عامة، بعض من يشتكي من الوحدة يحاول أن يخرجَ منها بمحاولات سطحية، يلبسُ أحد الأقنعة ليقنع نفسه أنهُ ليسَ وحيداً. الحال يشبه بالضبط هذا الذي يضحك وجسده مهشَّمْ. في تحليل هذا الضحك، إما احد أمرين:

ـ أنه فعلاً يلبسُ هذا القناع. ليتخفي.

ـ أنه لم يصدِّقْ ما حدث. ربما أن الوحدة شئٌ هائل ليتحملهُ شخصُ وحده. إنها لحظة خروج عن الواقع/عدم تصديق له.


لكن في الوحدة، ورغم كل الافتقاد والألم الموجع بشده، إلا أنَّني وبكلّ صراحة أعتقد أن الوحدة تعطي الإنسان مساحات واسعة للتحركْ. ببطئ و"بالراحه"، للتعرف علي الذات، لسماع صوت القلبْ. ربما للتحرر، وللتعامل مع فكرة أن الحياة قاسية بشكلٍ عام، وأنَّ علي الإنسان أن يتعود.

خلال الوحدة، نكتشفُ أشياءَ كثيرة، من خلال هذه المساحة الواسعة. بالنسبةِ لي علي الأقلّ، خلال هذه الفترة من الوَحدة والعزلة الغير اختيارية، عرفتُ أنني أحياناً كنتُ منافقاً، في الكثير من الأحيان، لم يكن عملي يوافقُ ما بقلبي. عرفتُ أنَّ العادة/التعوُّد هي من أسوء المشاعر. إنها "نمط" نمط يقتلُ فيكَ المغامرة، ويُطفِأُ عينيك.

خلال فترة الوحدة، وخلال المساحات الشاسعة من الفراغ الأبيض، تقفزُ إلي الذاكرة، ذكرياتٌ ما. كنا قد نسيناها، بحكم العادة، أو بحكم الكثافة التي كنا نحبسُ فيها أرواحنا.

مثلاً خلال الشهور الماضية، وبعد محاولات عديدة وممارسة مضنية، لم أعد أنبش في ذاكرتي عن ماضٍ جميل، يسليني عمَّا أنا فيه، كانَ يأتيني هذا الماضي وحدهُ، أحياناً ـ ولفرطِ الخيال ـ كنتُ أشعرُ أنَّ ما حدثَ يحدثُ الآنَ معي، الخيال بوابة كبيرة وجميلة. واسعة، ورقيقة جداً.

 لم أحاول أن أهرب من الواقع كما كنتُ دوماً. فجأةً اكتشفتُ أنني أتممتُ اثنتين وعشرينَ عاماً، وأنني يجبُ أن أواجه الحياة/الوجود. أن أتقبلَ كل ما يأتي به الوجود. أن أغوصَ داخلي/أكتشفني/أحددُ هدفِي كي أستطيع أن أعيش.

في شعور الوحدة/الافتقاد تدربُ نفسكَ علي التحمل، أعتقد أن أقسي أنواع التحمل هو تحمُّل الذات، وهذا ما أدركهُ سيوران في الاقتباس السابق. خلال الوحدة ستصادقُ أشياءَ كثرة، بالنسبةِ لي صادقتُ شخوصَ الروايات، الشخصيات التي أراقبها وأرسمُ لها تاريخاً ومستقبلاً كل يوم. صادقتُ عملي بشدة. صادقتُ الشايَ الأخضر. وفي النية أن أتعرفَ علي نكهات وأنواع أخري من الشاي.

في الوحدة، تكتسبُ الأشياء ألواناً اخري، معانيٍ أخري. رغم أنني أعرف أن ما أنا فيه سيمر، وسيمضي، شأنه شأن الحياة ذاتها، ورغم أنني متفائل، أفكرُ أحياناً: ربما يعد أن يمرّ كل شئ، سأتذكرُ نفسي الآن وأقول: صحيح، لربما كان هذا هو الأفضل لي. لقد تعلمتُ كثيراً من وحدتي اللا اختيارية.

قد تكون الوحدة، حالة صفرية أو حدية. ربما حسب ما يتعامل معها الإنسان حسبَ ما ستكون.

في النهاية، وبعد تقلصّ هذا الفراغ الأبيض الشاسع من الوحدة، لا يتبقي سوي الخيال. مؤانسة الخيال. ما أجمل العنوان، أعتقد لو أنني كتبتُ روايةً ما في يومٍ من الأيام ستحملُ هذا الإسم: مؤانسة الخيال.



20/1/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق