الاثنين، 20 يناير 2014

ثلاثة مقاطع عن الوَحدة .


I
"كلٌّ منا يا إيلينا، يختارُ جحيمهُ الخَاص،ذلكَ الجحيم الذي يجد نفسه فيه أكثر راحة"

منذُ فترة وداخلي صوتٌ يردد" لو أنَّ خوان خوسية مياس اطلعَ علي حكايتي لربما استبدلها بحكاية إيلينا".

من بين كل المشاعر استولت الوَحدة علي تفكير ميَّاس، ليكتب عنها. هذه الطريقة في الكتابة تمتعني بشكلٍ خاص. يعجبني في أدب ميلان كونديرا أنه يختارُ قيمةً ما، وينسجُ عليها روايته: الضحك والنسيان/الهوية/الخلود/البطء، وهكذا.
لم اقرء لميَّاس كثيراً، هذه الرواية فقط"هكذا كانت الوَحدَة". حازت إعجابي رغم أن الترجمة رديئة بعض الشئ. لكنَّ القصة عميقة للغاية.
إيلينا كانت وحيدة، أو بالأحري متوحدة لدرجة مأساوية، لم تعد تبالي بشئ، حتي عندما علمت أن زوجها وحبيبها منذُ الشباب يخونها.. ببساطة شديدة تعاملت كما لو أنَّ الأمر لا يعنيها.
أعتقد أنه في ممارسة الوَحدة نوع من التشفِّي في النفس، فيما فرطت فيه بالتحديد مما مضي، ونوع من اللامبالاة، والمواجهة المريرة مع الذات. إيلينا استأجرت تحرياً خاصاً يكتب لها تقارير عن زوجها. سرعان ما ملَّت من هذه التقارير. كانت بحاجة أكثر إلي أن تعرف نفسها"تواجها ذاتها".
طلبت من التحريّ أنْ يكتب تقاريراً عنها هيّ، بذاتها. ربما كانت تحتاج هذا النوع من أن تري نفسها: بمرآه . عندما صاح فيها أخوها، أنه لم يعد يفهمها. بل إنه بالأساس لم يكن يفهمها منذ شبابها. لم تفاجأ. هي كانت لا تعرفُ نفسها بالأساسْ. واحتاجت لكي تعرف نفسها، أن تخسر حياتها.
فكرتُ مراراً، أنَّ هذا الشعور بالوحدة، ناتجٌ بالأساس من حالة افتقاد شديد. افتقاد لشئٍ ما/احتياج. أفكرُ كثيراً(ولا أستطيع أن أجرب لأني لم أحطم أصنامي بعد) ماذا لو أنني لستُ محتاجاً لشئ؟ إنها حالة من الانعتاق الذي لن يُجرب. ألا تملكَ شيئاً وألا يملككَ شئْ. أعتقد أنها حالة غارقة في الرومانسية، لكنها الحقيقة: إذا لم نحتج شيئاً، لن نتوجع.
ببساطة: الوحدة، ضياع شئْ ما. انكسار/وجع/خوف/قلق. لتتخلص من كلّ هذا قد يكون مجدياً أن تتخلص من كلّ شئْ تمتلكه أو يمتلككْ. من خلال طريقتين:
أ‌.         إما أن تترك كل شئْ، وتذهب. أن تطلِّقَ كل ما بداخلك. وتبدأ من جديد. لكنَّ تحقيق هذا يظلُّ صعباً. أعتقد أن ملكيتك للأشياء وملكيتها لك تخضع للقلب. لو أنها ليست مستحوذة علي قلبك لن تستعبدك.
ب‌.     أن تمرِّسَ قلبَكَ علي الفقدانْ. أن تقلل قيمة الأشياء من حيث استحواذها عليه.

بالنسبة لإيلينا، كلفتها معرفة ذاتها بيتها وزوجها.
لكلّ إنسان في حالة وَحدته/افتقاده شئٌ ما يصادقه/يؤنسه. اختارت إيلينا الحشيش، كانت بينهما علاقة ممتدة لسنوات. والناس في هذا علي مذاهب، بعضهم يهربُ للأدب/الموسيقي/الرسم/السينما....إلخ. وحين ينتهي كل شئ، سيصادق ذاته. حين فهمت إيلينا نفسها لم تعد تأبه للحشيشْ. صارت مكتفيةً بذاتها.(ما أصعب هذا الشعور)
في الاقتباس السابق، عن الجحيم الخاص. هل كان يقصد مياس،أنَّ كلٌّ منا يمتلكهُ شئ ما/يملكُ شيئاً ما يخافُ أن يفقده، ولهذا يعيش في جحيم مستمر؟
II
"تَقَدَّم وهو لا يدري إلي أين؟وتراجع دونَ أن يدري لماذا؟"

لربما لخص المنسي قنديل في هذه الجملة حالة الإنسان الوحيد. لا يدري إلي أين ولا يعرفُ لماذا؟ نفس الدائرة المفرغة"اكتشاف الذات/تحمُّل النفس دون وجعٍ أو مللْ". لطالما كانت صديقتي الجميلة تقولُ لي"يا عبدو متعدش متردد كتير، خد قرار واعمل حاجة. واتحمل نتيجتها، بس اقتل التردد". رغم اعتراضي الشديد علي رأيها، إلا أنني في أوقات كثيرة أستحضرُ عينيها وهي تقولُ هذا وأفعل كما قالت.
كانت شخصية عليّ، شخصية المنسي قنديل ذاته. طبيب، كلية طب المنصورة، يحبّ الشعر. وجيل عبد الناصر. أنا أعتقد أن شخصية الراوي/أي راوي تختبئ داخل النص طوال الوقت.
كانت شخصية علي، تمثيلٌ كامل لمعني الوحدة. ربما أكثرَ من إيلينا نفسها في رواية مياس. الشئ المختلف بينهما، الزائد علي عليّ أن وحدته لم تكن فقط لأجل أنه لم يكتشف ذاته، لا، بل كانت بسبب هذا الحبّ المربك لفاطمة. هذه الطريقة المازوخية التي يتعامل بها معها. وهذا الكبرياء ـ الذي هو من تكوين الشخصية ـ في شخص فاطمة.
كانت فاطمة، تغيبُ وتعود، ربما بالسنوات، لكنها تعود. وما بينَ هذا الذهاب والعودة، يتمزقُ عليّ. هو يتقدم دوماً ولا يدري لأين؟ لم يكن لهُ هدف باعتباره إنساناً له حلم ذاتيّ، لا شئَ ينمو داخله. ويتراجع في اللحظة الأخيرة دونَ أن يدري لماذا؟. هذه الحالة من التشتت كانت كفيلة بأن تضيعه تماماً. لم يظفر بفاطمة، ولا ببديلتها: سلوي.
الوحدة/انكسارُ الروح ـ وعنوانها وحده يحملُ الأسي كله ـ تطلّ من كل شخصيات المنسي قنديل تقريباً في الرواية،. إلا فاطمة. فاطمة كانت مكتملة، لا تحتاجُ شيئاً، وحينما اضطرت لتطلب النقود من عليّ، بكت كثيراً، رغم أنها تعلمْ أنهُ لن يعايرها بشئْ. في النهاية لم تأخذ النقود.(نفس الكبرياء يمنعها من العودة معه لبيته عندما ستتحول لعاهرة)
يظلّ انكسار فاطمة، ليس وليداً من ذاتها، عينيها دوماً كانتا ألقتان، لامعتان، لكنَّ النكسة، وموت أبيها وأخيها وتشردها، هو ما كسرها. لم تكنْ وحيدةً بحال من الأحوال، كانت مكتفية بذاتها.
الشخصية الأكثر وحدةً وافتقاداً، كان ذلك الرجل حارس الكوبري. الذي يبحثُ عمنْ يقاسمهُ كوبَ شايْ. يبحثُ عن من يؤنسه. لا زوجه أو أولاد، فقط يتبصصُ علي العاشقيْن وهما يقبلان بعضهما ويحتضنان الرغبة والشوق بين جسديهما. وحين يكتشفاه ويهمَّا بالهرب. يرفعُ يدهُ ويتوسل: بالله عليكما لا تذهبا، لا تخافا، بالله ابقيا قليلاً.
لم يكن هذا الحارس يطلب سوي: المؤانسة. كان يطلبُ منهما أن يخدمهما، يحضرُ لهما كوبا شاي ويبادلهما أطراف الحديث، ويحدثهما أنّ: الجميعُ يأتونَ إلي هنا ويمضون، أراهم جميعاً، ولا أحدَ يراني أنا حارس الكوبري العجوز، وهم يحسبون أنني مجرد عارضة حديدية صمَّاء.
هذا التردد المقيت، الفشل الذريع في تحقيق شئ ما في الحياة. بالتحديد الفكرة في المقطع السابق: أنه يملككَ شئْ.
(أسري ما نحبّ، وما نريد، وما نكون)
الرواية مؤلمة لدرجة شديدة، لم أتوسل لأحد وانا أقرء توسلي للمنسي قنديل، أن يتمّ حكايتهما، عليّ وفاطمة. وأنا اقرء ـ لفرط دخولي في الرواية وتشابهي مع بعض ملامح عليّ ـ كنتُ أشعرُ أحياناً أن ما يحدث قد حدثَ لي قبل ذلك، في حالة تشبه الديجافو.
لخَّصَ المنسي قنديل، كلّ شئْ بالنسبة لي، وهو يقول، علي لسان عليّ :
اكتشفتُ فجأةً أنني متفردٌ لحدٍ مُخيف، لا أَنتَمي لأيّ شئْ، لا لأسرة ولا جماعة ولا شلَّة، منذُ أن قالت لي أمي: عندما يبدءون النشاط نم أنت. وأنا اسيرُ كالمُنَوَّم عميقاً، أحملُ أحزاني الشخصية بلا أي أُلفة.
بلا أي ألفة.

III

"س:ماذا تفعل من الصباح إلي المساء؟
 ج: أتحمَّلُ نَفسِيْ." *إميل سيوران.


نفس الإرباك، مواجهة الذات. محاولة استكناهها. ليسَ هناك قاعدة عامة، بعض من يشتكي من الوحدة يحاول أن يخرجَ منها بمحاولات سطحية، يلبسُ أحد الأقنعة ليقنع نفسه أنهُ ليسَ وحيداً. الحال يشبه بالضبط هذا الذي يضحك وجسده مهشَّمْ. في تحليل هذا الضحك، إما احد أمرين:

ـ أنه فعلاً يلبسُ هذا القناع. ليتخفي.

ـ أنه لم يصدِّقْ ما حدث. ربما أن الوحدة شئٌ هائل ليتحملهُ شخصُ وحده. إنها لحظة خروج عن الواقع/عدم تصديق له.


لكن في الوحدة، ورغم كل الافتقاد والألم الموجع بشده، إلا أنَّني وبكلّ صراحة أعتقد أن الوحدة تعطي الإنسان مساحات واسعة للتحركْ. ببطئ و"بالراحه"، للتعرف علي الذات، لسماع صوت القلبْ. ربما للتحرر، وللتعامل مع فكرة أن الحياة قاسية بشكلٍ عام، وأنَّ علي الإنسان أن يتعود.

خلال الوحدة، نكتشفُ أشياءَ كثيرة، من خلال هذه المساحة الواسعة. بالنسبةِ لي علي الأقلّ، خلال هذه الفترة من الوَحدة والعزلة الغير اختيارية، عرفتُ أنني أحياناً كنتُ منافقاً، في الكثير من الأحيان، لم يكن عملي يوافقُ ما بقلبي. عرفتُ أنَّ العادة/التعوُّد هي من أسوء المشاعر. إنها "نمط" نمط يقتلُ فيكَ المغامرة، ويُطفِأُ عينيك.

خلال فترة الوحدة، وخلال المساحات الشاسعة من الفراغ الأبيض، تقفزُ إلي الذاكرة، ذكرياتٌ ما. كنا قد نسيناها، بحكم العادة، أو بحكم الكثافة التي كنا نحبسُ فيها أرواحنا.

مثلاً خلال الشهور الماضية، وبعد محاولات عديدة وممارسة مضنية، لم أعد أنبش في ذاكرتي عن ماضٍ جميل، يسليني عمَّا أنا فيه، كانَ يأتيني هذا الماضي وحدهُ، أحياناً ـ ولفرطِ الخيال ـ كنتُ أشعرُ أنَّ ما حدثَ يحدثُ الآنَ معي، الخيال بوابة كبيرة وجميلة. واسعة، ورقيقة جداً.

 لم أحاول أن أهرب من الواقع كما كنتُ دوماً. فجأةً اكتشفتُ أنني أتممتُ اثنتين وعشرينَ عاماً، وأنني يجبُ أن أواجه الحياة/الوجود. أن أتقبلَ كل ما يأتي به الوجود. أن أغوصَ داخلي/أكتشفني/أحددُ هدفِي كي أستطيع أن أعيش.

في شعور الوحدة/الافتقاد تدربُ نفسكَ علي التحمل، أعتقد أن أقسي أنواع التحمل هو تحمُّل الذات، وهذا ما أدركهُ سيوران في الاقتباس السابق. خلال الوحدة ستصادقُ أشياءَ كثرة، بالنسبةِ لي صادقتُ شخوصَ الروايات، الشخصيات التي أراقبها وأرسمُ لها تاريخاً ومستقبلاً كل يوم. صادقتُ عملي بشدة. صادقتُ الشايَ الأخضر. وفي النية أن أتعرفَ علي نكهات وأنواع أخري من الشاي.

في الوحدة، تكتسبُ الأشياء ألواناً اخري، معانيٍ أخري. رغم أنني أعرف أن ما أنا فيه سيمر، وسيمضي، شأنه شأن الحياة ذاتها، ورغم أنني متفائل، أفكرُ أحياناً: ربما يعد أن يمرّ كل شئ، سأتذكرُ نفسي الآن وأقول: صحيح، لربما كان هذا هو الأفضل لي. لقد تعلمتُ كثيراً من وحدتي اللا اختيارية.

قد تكون الوحدة، حالة صفرية أو حدية. ربما حسب ما يتعامل معها الإنسان حسبَ ما ستكون.

في النهاية، وبعد تقلصّ هذا الفراغ الأبيض الشاسع من الوحدة، لا يتبقي سوي الخيال. مؤانسة الخيال. ما أجمل العنوان، أعتقد لو أنني كتبتُ روايةً ما في يومٍ من الأيام ستحملُ هذا الإسم: مؤانسة الخيال.



20/1/2013

الخميس، 9 يناير 2014

الهدية . .



كانت مدللة العائلة: خالتي كريمة .
لون بشرتها مثل الشوكولاته. لكنها كانت جميلة أكثرَ من أيّ امرأةٍ أخري. كانت فتاتي الجميلة. كنتُ أتسللُ عندما كنا نزورهم إلي غرفتها أشاهدها وهي تبدلُ ملابسها، كنتُ أسترقُ النظرَ إلي رجلها ورقبتها، وعند النوم أظلُّ سهراناً لأراقبَ ملامحها.
 لا أعرفُ ما الذي كان يجذبني إلي قدمها بالتحديد؟ ربما كانَ الخطَّ الفاصل بينَ باطن القدمِ وظاهرها، هناكَ يجتمعُ لونان، اللونُ الأسمر لظاهر القدم والأسمر الذي يشوبه بياض عجيب في باطن القدم، وبينَ هذا وذاك الفاصل العجيب كنتُ أتوه، لربما كانَ ينقصني هذا الفاصل في حياتي بشكلٍ عام[1].
هوجاءُ كالاسكندرية، كنتُ أنتظرُ من صيفٍ لصيف، حتي يأتي ميعاد"المصيف"كانت أمي تأخذنا من بيتنا في القاهرة إلي عائلتها في الاسكندرية، كنتُ أحبّ البحر لكنني كنتُ أحبُّ كريمة أكثر. مجرد مشاهدتها وهي تمشي في شوارع "سيدي جابر" بين فتيان الحيّ ولا يجرء أحدٌ أن يحادثها، كان يمثلُ لي متعةً خلابة[2].
كنتُ أري نفسي أقوي منهم جميعاً، لقد كنتُ أظفرُ من كريمة بالكثير، واللا محكيّ.
مرةً مثلاً أخبرتها أنني أحبُّ شكلَّ نهديها، تظاهرت بالذعر، لكنها ضربتني علي كتفي وهي تضحك ـ في خفة ـ وقالت" تعالي ويايا، أنا هوريك". دخلتُ غرفتها مساءاً والجميعُ يتسامرونَ بينهم كاسات الشاي التي صَنَعَتهَا(في بيتها لم يكن أحدٌ من الضيوف ليشرب الشاي من غير يدها، لا أعرفُ لماذا؟ ربما لأنّ الشاي كان يكتسبُ مذاقاً أحلي عندما تقدمهُ هِيّ)، لم يكن ليشكَ أحد، أهٍ لو كنتُ كبيراً قليلاً. أخذتني خالتي  وأرتني أجملَ مشهدٍ رأيته في حياتي[3]،  لقد أعطتني فرصة النظر إلي نهدينِ مكتملين عدة لحظاتْ. شهقتُ لحظةً ثمّ ارتميتُ علي صدرها، في هذا الحدّ الفاصل بينَ عالمين(كما هو الحال في الحد الفاصل بينَ باطن قدمها وظاهرها)، ضَحِكَتْ كثيراً من ارتمائي علي صدرها، ابتسمتْ واحتضنتني، غمرتني بحنانها، ضحكت وهي تقبلُ رأسي. بعد هذا بلحظات قالت لي"يا خالد، اوعي تزعل بنت ف حياتك أبداً" نظرتُ إليها ببلاهه وقلت"ومين قاللك إني هعرف بنات غيرك أصلاً". ضحكت ولكن دعني أقول أنَّ هذا الحضن لم أحصل عليه من أحدٍ غيرها حتي سارَّه[4].

كانت أختها الأصغر تغارُ منها أيما غيرة، لكنها وبمرورِ الوقت، استسلمت للواقع، لربما كانت أجمل من كريمة وأصغر منها أيضاً، لكنَّ روح كريمة تطغي، حينَ تحلّ في مكانٍ لا يكونُ غيرها، وهكذا ظلت نائلة تتحاشي وجودها بجانب كريمة، وإن وُجدت في نفس المكان ابتعدت عن المشهد وتركت كريمة تسيطر علي الجميع بروحها.

لا أعرف ما الذي حدثَ بالتحديد، مرت سنتان لم أذهب للاسكندرية فيهما لظروفنا المادية المتعسرة، جاءت الأخبار من الاسكندرية بتغير حالة كريمة، كنتُ أسمعُ نشيجَ أمي حين تهاتفها خالتي نائلة وتحكي لها[5].
ما الذي حدث لا أعرف، كنتُ صغيراً علي إدراك ما يحدث[6]. في ليلةٍ من الليالي القارسة ـ أيضاً ـ قامت أمي علي صوتِ الهاتف، شهقت أمي وقامت تبكي، قام أبي واستيقظتُ قلقاً، كنتُ أعرفُ في قرارةِ نفسي أن شيئاً ما حدث، شئٌ غير طيب بالمره،قلبي أخبرني بذلك.
في الصباح ارتدت امي ملابسها وأبي، اقترضت من جارتنا مالاً كثيراً، فهمتُ أنها ستري كريمة، بكيتُ كثيراً:
ـ أريدُ أن أراها.
هزّ أبي رأسه في ألمٍ لم أشاهدهُ فيهِ من قبل[7]. لم تتحدثْ أمي، فقط سمعتها تتمتم:
ـ وأنا كمان، كان نفسي أشوفها.

استطعتُ ـ باعتباري أصغر إخوتي ـ أن أذهب معهم، الاسكندرية، في الشتاء القارس، كانت أمِّي ونحنُ في القطار ساهمةً طوال الوقت إلي السماء، أبي كان يحاوطها بكتفه، كانت تبكي بصمت، عيناها لم تتوقفا عن البكاء. أبي أيضاً بكي، ظلّ متحملاً لفترة كبيرة، حتي وصلنا مشارف الحيّ، كانت عيناي معلقتان بوجه أمي الأسمر[8]،فجأةً رأيتُ أبي ـ لأول مرة ـ يبكي، في صمتٍ أيضاً، ما إن وصلنا البيت، ورأينا الناسَ يتحلقون حول باب البيت وعلي السلم وفي الشارع، حتي أجهش أبي بالبكاء[9].

لم أفهم، ولم أبكِ أيضاً، كانَ هناكَ شئٌ ما بقلبي يخبرني ألا أبكي، لأني لستُ مثلهم. أنا حبيبها، نعم أنا حبيب كريمة، كانت قد أخبرتني مراراً أنها ستنتظرني لتتزوجني[10].
بعدَ يومين، كانت جنازتها.
الجنازة كانت كبيرة جداً، كانت لحظات مبكية لم أشهد مثلها، حتي جنازة أمي لم تكن مثل جنازتها[11]. الرجالُ والنساء والفتيات والصبيان، الجميع كان يبكي. أحد الشباب كانَ ينتحبُ بشدة في الجنازة، حين ظهرتُ أمامهُ، انحني وقبلني، وعندَ الدفنْ جلس علي الأرض واحتضنني حضناً قوياً وطويلاً.
لم تغبْ كريمة عنيْ يوماً، وحينَ كبرتُ قليلاً صرتُ أسافرُ الاسكندرية وحدي، أزورها،وكانت تزورني باستمرار[12]. كنتُ قد بلغت الرابعة عشر عندما كنتُ أزورُ قبرها، كنتُ أجلس في الاسكندرية أسبوعاً أو أكثر أقضي أغلب أيامي هناك عند قبرها[13]، وكان يأتي علي الليل أحياناً وأبيت جانبها.
كنتُ أترددُ علي جدتي، عندما كبرتُ أكثر وصرت في العشرين، أخبرني أبي ببعض التفاصيل:

خالتك كريمة، لبسها جنّ يا خالد، كانت جميلة جداً، حتي الجنّ كان عاوز يتجوزها، بس هيّ مرضيتش. جننوها ولاد الكلب.
شكلها بقي يتغير كتير، عنيها بقت حمره، أمها كانت بتخاف منها ولولا انها بتحبها أكتر من نفسها كانت خافت تقرب منها[14]......

لم أخلع الخاتم من يدي أبداً، ولم يشاهدهُ أحدٌ غيري، كان الخاتم الهدية الوحيدة التي قدمتها لي.عندما كبرتُ لم أحبّ امرأةً أخري، كانت تأتيني كريمة عندما أنام، صرتُ معتاداً عليها كثيراً، في فترات كانت تأتيني يومياً[15].
قبل أن أقابل سارة بيومين، جاءتني كريمة في المنام وهي تضحك. كانت سارة ممسكةً في يدها، ركضتُ لأحتضنَ كريمة فاحتضنتني، وقالت: مش هتفضل كده.ولم أفهم. تسامرنا قليلاً ونصحتني نصائح خاصة بالعمل، وهي تمشي، كانت سارة قد اختفن قالتلي كريمة وهي تمشي: خد بالك منها.
بعدها بيومين قابلتُ سارة وأنا أزورُ جدتي في سيدي جابر. تزوجنا. وكانت كريمة تأتيني كثيراً، ليلة زواجي، جاءتني وظلت تضحك وهي تقول: كبرت يا خالد. مش قلتلك إني مستنياك.
أبي ظلّ وفياً لكريمة ولأمي معاً، كان يزورهما كلما استطاع، حتي عندما كبر ووَهِن كان يزورُ كريمة في الاسكندرية، كنتُ أصحبهُ أحياناً،وكنتُ أتسائلُ دوماً : لماذا لا تأتيهِ كما تأتيني؟!
مرة من مرات زياراته لكريمة، أخبرني أبي بالنهاية، كريمة حبيبتك رمت نفسها من فوق السطح، ظلت تمشي لفترة كبيرة علي السطح والناس مشدوهه في الشارع، كانت تري الشارع قريباً إليها، لم تكن تشعر بالمسافة بينها وبين الشارع[16].
الآن أنا سعيد، كريمة تسكنني. سارَّة تعيشُ معي الآن، كريمة لم تنقطع عن زيارتي أبداً. والدي توفي في إحدي زياراته للاسكندرية، نائلة لم تتزوج رغم جمالها، وعندما أزورهم في الاسكندرية كانت تحتضنني بشدة وهي تقول: إنت اللي بقيلي من ذكري الغالية.





9/1/2013
02:19ص
















[1] عندما كبرتُ وأحببتُ القراءة، فهمتُ أنَّ للخيال أهمية ليست لغيرة. لربما كان باطن قدم خالتي يشبهُ الخيال،فقد كان أجملَ من ظاهر قدمها.
[2] كانت كريمة فريدة من نوعها، لطالما حقدت عليها فتياتُ الحيّ، السمراواتُ منهنَّ والبيضاواتْ، كانت تجتذبُ الفتيان رغم أنها ليست الأجمل، حاولتُ أن أحلل هذا عندما كبرتُ وغابت عن عيناي"وإن لم تغب عن مخيلتي"،لربما كانَ افتتانُ الشبابِ بها لسببين:

أ‌.         هذا البهاء الذي ينسابُ كالشلال وهي تمشي فتهتزُّ كرتان ليستا كبيرتانِ علي صدرها ببطءٍ ومهارة.
ب‌.     ربما لأنها كانت غامضةً وفريدة، عندما كبرتُ فهمتُ أكثر، كانت تعجبني المرأة الغامضة أكثر، كنتُ أجدُ متعةً أكبر في اكتشافها، ومحاولتي أن تقع في غرامي(لو أنني كنتُ شخصاً ذكورياً لقلتُ أنَّ وقوع أنثي فريدة وغامضة في غرامك يعدُّ انتصاراً أكثر تاريخية وأهميةً من انتصارات نابليون،ولكن الحقيقة أنني أحترم المرأة الغامضة أكثر، ولطالما خذلني حدسي مع الكثير منهن، كان مما يهونُ عليّ خساراتي المتتالية أنني فزتُ بكريمة في صغري، تلكَ التي لم يفز بها أحدٌ في كبره).
[3] سأقول لك أنني مارست الجنس مع الكثيراتْ، لكنّ واحدةً منهنّ لم تعطني من الجمال مقدار ما أعطتني خالتي كريمة.
[4] بطريقةٍ ما صرتُ حبيساً لهذا الحضن. سألخصُ لكَ نظريتي:
تستطيعُ المرأة ما لا يستطيعه الرجل، تستطيع المرأة بحضن أن تجعلكَ رجلاً، كما تستطيعُ بحضنٍ أيضاً أن تنسيكَ كل شئ.
هذا بالضبط ما فعلتهُ معي خالتي كريمة، أنستني كلّ شئ، ظلت بصمتُهَا تؤلمني، كنتُ أفكرُ وأنا صغير لو أنني كنتُ كبيراً لتزوجتها، ومرة قلتُ لها: لو كنت كبير شوية، كنت هتجوزك. فضحكت واحتضنتني، قالت: هستناكْ. ويبدو أنها انتظرتْ حتي أخذها الله، ولم أستطع أن أكبر بشكلٍ أسرع لأنقذها من الموت.
[5] كانت هذه الأيام أيامَ شتاءٍ قارس، كنتُ أنظرُ لأمي وهي تكلمُ خالتي، كنتُ أري في وجهها كلاماً كثيراً، أو بالأحري وجعاً كثيراً، لكنها كانت كتومة بخلاف خالتي كريمة. وكنتُ مساءاً أسمعُ نشيجَ أمي، وهي تحكي لأبي: محدش عارف إيه اللي حاصل، بقي كريمة، اللي ملت الدنيا بضحكتها يحصل فيها كده؟ جرا ايه في العالم. وكانت كلما حكت لأبي أرتَعِدْ، أنا في قرارة نفسي كنتُ أشعرُ بحدوثِ شئٍ ما، شئ ليس جيداً بالمره، وكلما سمعتُ أمي تبكي كلما انكمشتُ في سريري وبكيت، مرةً كلمتُ الله وأنا أبكي، لا أذكر بالتحديد ماذا قلتُ له، ولكنني أذكر هذا الجملة: يارب أنا بَ أحبها، يا ريت تخلِّي بالك منها.
[6] عندما كبرت لم أنسها، أو أنسَ ما حدث، ظللتُ أنقبُ عما حدثَ لها حتي أخبرتني جدتي...وأبي.
[7] كان رجال العائلة جميعاً يحبونَ كريمة، يوقرونها، ولم تكن أياً من نسائهنّ يغرن منها، كانت حبيبة الجميع بحقّ.
[8] كانت أمي أجمل نساء العائلة بعد كريمة ـ رحمها الله ـ ،في الحقيقة لم تكن كريمة أجمل من امي كثيراً، ما كان يميزها عن أمي أنها كانت أكثر جرأة وفرادةً وغموضاً. لو امتلكت أمي مقومات كريمة، لما استطاعَ أن يتزوجها ابي.
[9] لأكونَ أكثرَ دقة، كانَ أبي يحبّ كريمة أكثر من أيّ رجلٍ آخر في العائلة، أمي كانت تعلمُ ذلك، لكنها كانت تعلمُ أيضاً أنهُ يحبها هي كزوجة، وكانت تعلم أن كريمة "زاهدة" بشكلٍ ما في الرجال، وكانت تعلمُ أنها تحبُّ كريمة أكثر من أي إنسان في هذه الدنيا، ربما كانت تحبها أكثر مني أيضاً. سأكونُ أكثر صراحة وأقول أن حب كريمة  لي وصداقتها، ربما كان بسبب حبها لأمي.
[10] آخر مرة اخبرتني فيها كريمة أنها ستنتظرني كانت في السابعة والعشرين منذُ سنتين تقريباً، وكنتُ في السادسة.
[11] ماتت أمي في صمتٍ عجيب، بعد أن عادتْ من الجنازة بأيام. لم تكن تأكل إلا القليل، في الليلْ، سمعتُ أبي يبكي،وكنتُ أعرفُ أن شيئاً ما سيئاً سيحدثْ،قلبي أخبرني بذلك أيضاً، في الصباح كانت جنازة أمي.
[12] بعد أن دفنت، وعدتُ للقاهرة، كانت تزورني باستمرار، في اليوم الذي ماتت فيه أمي، جاءتني وأنا نائم،كانت في بيتٍ لا أعرفه، دخلت عليها أمي، واحتضنتها بقوة، كنتُ أشاهدهما من بعيد، أحاول أن أحتضن كريمة ولم أستطع أن أصل إليها. بعدها بساعتين تقريباً سمعتُ بكاء أبي.
[13] في ليلةٍ من الليالي، وأنا نائمٌ عند قبرها، جاءتني في المنام، ضاحكةً وشعرها مسترسل، احتضنتني كما احتضنتني من قبل حين أخبرتها أنني أحب نهديها، وأجلستني علي حجرها، كنتُ فرحاً ولكنني بكيت. مسحت بكفيها الحانيتين دموعي وقالت لي: يا خالد، مش أنا حبيبتك؟،فأجبت: أيوة إنتِ حبيبتي. طيب واللي بيحب حد محتاج يجيله؟ مش لازم تيجي تزورني هنا، وبعدين أنا كمان بزورك. ثم ابتسمت وأعطتني خاتماً فضياً. وذهبتْ. من حينها لم أزرها إلا عندما كبر أبي وكنت أساعده في سفره، لكنها كانت تزورني باستمرار.
[14] بقية القصة رأيتها في منامي/مخيلتي،وكنتُ أقوم مفزوعاً كل مرة. كريمة، صارت مجنونة، نعم مجنونة، كنتُ أشاهدها في غرفتها التي طالما استرقتُ النظر إليها، وكان شعرهاً مهووشاً وعينيها حمراوتان جداً وتصرخ: محدش يملكني. أنا صاحبة نفسي، يا ولاد الكلاب،يا شراميط. وكانت أحياناً تحاولُ أن ترمي نفسها من البلكونة. أمها في النهاية قيدتها في سريرها بحبال كثيرة. كانت تطعمها وتسقيها بيدها، صارت كريمة"مدهوله"في حالها. أختها التي كانت تغار منها حزنت كثيراً وكانت تبكي.
[15] مرة، صادقتً فتاةً بلا حب، علي السرير، لم أعجبها، في الليل جاءتني كريمة كما لم أرها من قبل: عارية تماماً، احتضنتني وقالت: مش مشكلة،سيبك منها. ثم احتضنتني بكاملها. عندما استيقظتُ كنتُ أشعرُ بجسدها ملاصقاً جسدي، أشعرُ بأناملها، لم تكن جنابة كانت جماعاً كاملاً. وعندما قمتُ لأستحمّ كانت تستحمُّ معي.
[16] أنا لم أفاجأ كثيراً بهذه النهاية. يستطيعُ الجميع أن يقول أنها كانت مجنونة، أنا لا أصدقهم،كريمة أجمل مخلوقة،وأكثر الناس حباً. إذا صدَّقتُ أن الجنّ كان يريد الزواج منها، فهي كانت ترفض. لم تكن مجنونة وإنما كانت ترفض وفقط. لهذا كانت تشتم وتصوِّت كثيراً. هي كانت تعلم بالمسافة بينها وبين الشارع، وهي اختارت أن تموت وألا يمسها أحدهم. كانت كريمة عصيَّة علي كل الرجال، لسببٍ وحيد: أنه لم يستطع أحدٌ أن يغصبها علي شئ. ولم يحظ أحدٌ باعجابها. كريمة كانت تعطي بحبّ لا مثيل له. لهذا لم يستطع أحدٌ أن يغصبها.

السبت، 30 نوفمبر 2013

رسالة يبدو انها كُتبت مراراً .. I

أشتاقُكِ وأشتاقكِ وأشتاقك. يمرُ بي الوقتُ وأشتاقكْ.لا أستطيعُ أن أقول أنني أشتاقُكِ أكثر،أو أنَّني لا أرومُ الآنَ إلا أن أري وجهَكِ الرقراق كالفضة . لا أعرف إن كنتُ أزيدُ في حبك أو لا أزيد ،أزيدُ في اشتياقِكِ أو لا أزيد. هل في الحب زيادة أو نقصان؟ لا أعرفْ ،كل ما أعرفهُ أنني أشتاقكِ وأشتاقك ـ ولن أستطيعُ أن أقولَ أكثرَ من أَيِّ وقتِ مضي ،لأنَّ الاشتياقَ لا يكونُ بالكثرةِ والقلة،الشوقُ ليس كالإيمان عند فرق العقائد يزيدُ وينقص! الشوقُ يسكنُ والاشتياقُ يتحرك دوماً ويتَّقِدْ .لا يزيدُ ولا ينقصْ،ربما أنَّ الحبَّ والشوقَ خارجَ الزَّمَنْ لأنهما من الله ـ .

تسائَلتُ من عقلي وقلبي : هل يفعلُ الله الشر..؟!

لم تكن عندي مشكلة في معني أن يصنع الله الشر أو حتي أن يفعله ،فالرَّبُ ربٌّ علي كل حال،ولكنني تسائلتُ حتي أفهم علي أي صورةٍ ووجهٍ سأعبدُ الله !

كانت الإجابة أن الشر والخير مفهومانِ نسبيان خاصانِ بنا نحنُ البشر،من الصعوبةِ بمكان أن نقيمهما علي الله ونقيده بهما.

منذُ فترة وتمرُّ هذه الفكرة برأسي :

إنَّ الأمرَ أشبهُ ـ لن يكونَ التشبيهُ دقيقاً ـ ما يكونُ بكتابةِ روايةٍ ما/مسرحيةٍ ما من الأدب الكلاسيكي الروسي ! 

إنَّ اللهَ في عليائِهِ يقدرُ ما يقدرُ ويفعلُ ما يفعلُ دونَ أن نسأله !.

كنتُ قد سألتُهُ مراراً ،انكمشتُ في سريري وبكيتُ وسألتهُ : لماذا؟. سأقولُ أنني عاتبتهُ أيضاً أكثرَ من مرة،علي سجادةِ الصلاة! بكيتُ وانتحبتُ وسألته : أهكذا تفعلُ بعبيدك؟ تفعلُ بأولادك..؟! لماذا خلقتنا إذن؟! إنني مقتنعٌ أنكَ تحبني أكثرَ من اقتناعي أنني أحبكْ ولكنني لا أفهمُ منطِقَكَ في الحب! ربما أنني لستُ كاملاً لأفهم ماهيتكَ ولا لأفهم مفاهيمك! هل عندكَ أصلاً مفاهيم!

هكذا عاتبته.


تابعتُ الأمرَ حتي نهايته،وسائلتُ والدي ـ الذي انتشلني مني كثيراً والذي يسمعني بلا أي اكتراثِ بالوقت أو ما أقول ـ ،كانَ والدي أكثرَ واقعيةً ولا اكتراثاً مني،باختصار :

اللهُ يفعلُ ما يفعل ،هو لن يغضبَ إن عاتبته،هو لا يعاملنا كالتاجر إن غبتَ يوماً سينقصُ من مرتبك الشهريّ.لكنَّ الأفضلَ أن ترضي،نعم الأفضلُ أن ترضي.

وأردفَ :

هل تظنُّ أننا نحبُّ الحياة؟! إنني قبلكَ وقبلَ كل الشباب أستعجلُ الذهابَ إليه ـ بالتأكيد سيكونُ من الأفضل أن أذهبَ إليهِ ـ .إنني أتحملُ الدنيا لأنَّ الله قدرها عليّ ،أنا لا أحبها أنا أحبهُ هوَ ! ومن هنا هو يريدُ أن يحققَ مشيئته وأنا ضمنَ مشيئته ،حسناً أنا لا أحبُّ الحياة ،أنا أحبهُ هو.



في النهاية ، لا أعلمُ لم أرادُ اللهُ ما أرادْ ، ولن أصفَ أفعالهُ بالخيرِ والشر فهما متساويانِ عنده ـ يبدو هذا الجواب مريحاً بعض الشئ ، لا مشكلةً عندي في هذا ـ وربما سأحاولُ الا أفكرَ في مدي جدوي أيّ شئ .

شئتُ أم أبيتُ ، هذه هي الحقيقة ـ قد تكونُ حقيقةً مثالية أو حتي ديماجوجية أو سنقول أنهُ ما فتئ الأنبياء وأربابُ الديانات من ترديدها لكن لا مشكلةَ عندي أيضاً في هذا ـ سنموتُ يوماً ما ، يقتلنا الرصاص يقتلنا السرطان ، نموتُ ونحنُ نيام أو حتي ننتحر ، سنموتُ يوماً ما.. في الدنيا نحاولُ أن نصلَ إليه،نتمسكُ بأشياء كثيرة،نتمسكُ بالحبّ ،بالناس ،بالصور ونتمسكُ بالموسيقي والشعر ،كل هذه الأشياء نتحملُ بها الحياة لنصل إليهِ في النهاية،بعدَ الموتْ.

لا يهمُّ بالنسبةِ لي ماذا بعد الموتْ،جنة أو نار؟ ما يهمُّ أنني سأتخلصُ من هذه الحياة ـ بالتأكيد أستطيعُ أن افرح وأضحك وأن أدخل السينما لا أعني أنني سأعيشُ تعيساً ولكنني أحاول أن أصيغَ عبارةً ما.. ربما : أن أتعاملْ مع الواقع بأريحية..هذه هيَ ـ وأنني سأذهب إليهِ هناك،في عليائِهِ التي لا أعرفُ أينَ هيَ بالأساس !
ولا بدَّ أنهُ أعرفُ بعبيده منهم.


لكنني بعدَ كلّ هذا لا أستطيعُ أن أمنعَ نفسي من السؤال :ما جدوي كلّ هذا؟! كل هذا التعب/الجهد/الغضب/وحتي الحبّ !

ويأتيني الجوابُ سهلاً ورقراقاً : إنها مشيئةُ الإله ! القوة العليا في هذا الكونْ .


كيفَ أنتِ الآنَ يا حبيبتي ، لا بدَّ أنكِ مشتاقةٌ أنتِ أيضاً إليّ . حاولتُ ألا أكتبَ ، لكنْ سامحيني،هكذا جبلتْ . الكتمانُ خاصيةٌ لكِ أنتِ .

أشتاقكِ وأشتاقكِ وأشتاقكِ،وأحبكِ وأحبكِ وأحبكْ.

اسمحي لي أن أصفَ وجهكِ الذي يشبهُ روحكِ ببيتٍ للبحتري :

كأنما الفضةُ البيضاءُ سائلةً *** من السَّبائِكِ تَجرِي في مَجَارِيهَا .

3/11/2013م.
03:02م.

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

علي الهامش . .



 تبدو الكتابة عمليةُ استنزاف,ربما المتعة هي التي تجعلني أقرء,ولا أجد متعتي   ـ علي الأقلّ الآن ـ سوي في الشعر والروايات,بعيداً عن كتب الفلسفة الغارقة وكتب الفكر المُتعَبَه.
"المياة كلها بلونِ الغرق"يحدثنا سيوران .
تبدو اللغةُ متعبةٌ أكثر من اللزوم ,في لغةٍ كلغتنا الفضفاضه ,يضيعُ المعني ويكتسبُ المجازُ صورتهُ الزائفة!
.. .. .. ..

ربما للشاعرِ خصوصيةٌ ما,لذلك قالت العرب"المعني في بطنِ الشاعر".قرأتُ لأحدِ الفلاسفة أن الناقدين ينطلقونَ من خارجِ الشاعرِ إلي داخله,بينما الشعر من داخلِ الشاعرِ إلي خارجه/لغته ,ولهذا يفشلون في استكناهِ حقيقةَ ما يقصدُ الشاعر.

تتقاربُ الرواياتُ من الشعرِ في نفسِ المنطقة ,فلا تحكم علي أحدهم بظاهر اللفظ,فربما خانتهُ اللغة وربما خانكَ فهمك,وربما لا قيمةَ أصلاً لكلٍّ هذا,فاللغةُ فضفاضةٌ أكثر ن اللزوم .
.. .. .. ..

تبدو تلكَ الأسئلة ,كما الأسئلة الوجودية ساذجة وميته ولزجه ,لكنني لا أسألهُ لنفسي كسؤال وجودي,لا أعرفُ لماذا أسأل؟ . .

يبدو كلُّ شئٍ بلونٍ واحد كما قالَ سيوران ,أحياناً أتوقفُ أمامَ قطعةِ الشوكولا أو حتي مشروب ساخن ,وأسألُ نفسي :هل هو مهم أن أشرب..؟! في النهاية تنتهي الاجابات بأحد شيئين:
أن أقول أن هذا سيمتعني ولهذا فهو ذو فائدة كبيرة,إذ أن أهمية الحياة في أن يتمتع الإنسان,طالما أن متعته لن تؤذي!
أو أقول أن هذا مما لا يفيد,وكم وقفتُ أمام أشياءَ جميلة لأسئل هذا السؤال الحقير,وفي النهاية تختلف الإجابات!
.. .. .. ..

هل لكلٍّ الأسئلة إجابات..؟!
يبدو السؤالُ مقيتاً أيضاً ولستُ أنا سائلة,ولكن يبدو لي اللهُ كسؤالٍ بلا إجابة!
.. .. .. ..

هذا الشئُ الذي زادتْ بهِ اللغةُ ثقلاً والمجازُ وِسعاً"الحُبّ".تكلمَ الشعراءُ والأدباءُ والفلاسفة عن الحبّ وعن الأخلاق وعن القيم,وأسألُ نفسي الآن,هل لكلٍّ تلكَ الكتابات قيمة..؟!
.. .. .. ..

ماذا سيضيفُ ما أكتب الآن..؟!
بضعةَ أسئلة إلي خزانةِ الوجود,أو ربما ورقةً أسجلها في إحدي الورقاتِ الصغيرة التي جاءتني كهدية!
لماذا يكرهُ الإنسانُ حياتهُ وتضيقُ بهِ الحياة!
هل الحياةُ تحتملُ كل هذا.؟الحياةُ أصغرُ من أن تثقلها بكلِّ هذا الحزنِ العقيم.
(أعرفُ أنني أكذب,إذ أنني تنتابني حالاتُ الحزنِ كثيراً!)
.. .. .. ..

نبدو كسيرينِ ,ولا نحاولُ سوي أن نكونَ أحياءاً,ونفكرُ في العالم والإنسان والحبّ والحدود وأولادُ الزواني اللذينَ لا يجدونَ ملجئاً .
ربما الحياةُ لا تحتملُ كل هذا التفكير أيضاً.
.. .. .. ..
لماذا لا تأتي يا يوسف ,قلتَ أَنَّ المجازَ لا يعبرُ عنك!
نصحتكَ أن تأتي ,نتسكعُ يوماً في القاهرة ,نختفي في أزقةِ الحسين,ونجاورُ الحاكم بأمرِ الله,ولنترسمَ التاريخَ في أعطافنا,ولنغلق هواتفنا ولنرمِ أحزاننا خلفنا في فرح ,ولنغلقَ خزاناتنا,ولو ليومٍ واحد,فاللغةُ تشتهي أن تستريحَ من جرحنا لها في كلّ قصيدةٍ أو مقال.

تبدو اللغةُ كعجوزٍ ,في صحراءَ يتظللُ بشجرةٍ يافعة ,تنفخُ نايَ مجازها ,ويصير المعني كما صوتُ الناي,يسمعُ ولا يري ,يحسُّ ولا يمسك.يظلُّ غير مُنالٍ دوماً قريبٌ وبعيد ,فينا ولا نستطيع امتلاكه!

اللغةُ عاجزة ,وستظل اللغةُ تدخلكَ في متاهةٍ ما ,لا تستطيعُ الخوضَ فيها ولا الفكاك منها,ترغمك عليها وتريكَ عجزها في اختيالٍ مركبّ!.

هل من المنصفِ أن أرمي اللغةَ بالعجز..؟!ربما ليس منصفاً ربما نحنُ العاجزونَ عن إدراكها.

تعالْ يا صديقي ,لنتسكَّعَ ليومٍ واحد ,ولنشربَ قهوةً معتقة ,وحين يأتي دورنا لنذهب سنعودُ كما كنَّا ,وربما سأهديكَ كتاباً لنيتشه لتصرخَ معه"خراءُ هذا العالمِ هو طعامه!".