الاثنين، 27 فبراير 2012

الأناسُ الطيبونْ...


 ما دفعني لكتابة هذه التدوينه المتعبة الدافئة,ما غمرني ويغمرني من عطاءٍ ومنحٍ,من عطايا الوهابِ ومنحِهِ . .
لطالما كان هناكَ من ييسرهم اللهُ لي ,لمنحي من حبهم وعطايا قلوبهم..وأذكر حين كنتُ طفلاً صغيراً,وكنتُ أتسلقُ باب البيت الذي نسكنه,أن "شبك" جلبابي في أحد أعمدة الحديد التي تزين البيت,حينها وقعتُ علي الأرضِ وجلبابي ما زالَ في قطعة الحديد الصغيرة.
برز شابانِ و أوقفاني علي قدمي واطمأنا أني بخير.
قفز عدد من تلكَ الحكاياتِ الصغيرة التي حدثت لعمري الصغير .
أتذكرُ حين كادت أن تصدمني سيارة,ولكن ستر الله و أسدل علي من أنوارِ حُجَبِهِ وأسراره.ويسر لي في تلكَ اللحظةِ الهاربةِ رجلاً"لم يكن علي وفاقٍ مع أبي كثيراً"فأخذني وهدأني وأوصلني حتي باب الحضانة"التي لم أكن أحبها"واشتري لي بسكويتاً..
في حياتي الكثير ممن أعطوني وغمروني بحنانهم,رغم وجود الكثيرين ممن أغرقوني بحقدهم وشرورهم.
أذكر حين كنت صغيراً أن سألتُ "لماذا خلق الله الشر والأشرار؟!"وقفز سؤالٌ آخر,حين كبرتُ"ألا يعلمُ هؤلاءِ الأشرارِ أنهم خبيثون,وأن الناس تكرههم؟!".
كنت وأنا صغير,مؤمناً إيماناً تقليدياً لا يسأل,وكانت الإجابة معلبةً كوجبةِ كنتاكي!.
حين كبرتُ,لم أجد جواباً علي أسئلتي,وما زالت تلحُ علي,وتجتاحني في فترات تأملي الكثيرة و العصيبة.
قفزت فكرةٌ أخري,عن أولئك الناسُ الطيبون الذين ملئوا حياتي,بمقدار"أو أكثر أو أقلقليلاً"ما أغرقني فيهِ الأشرار.
عندما خلق الله الشر,خلق لهُ وموازياً له,الخير,كما خلق الجنة والنار.لكلٍ منهما.
بالنسبةِ لي,ليس قوامُ الحكمِ علي الناسِ بعباداتهم,التي تظهر,وإنما بمقدارِ ما أعطوا ومنحوا.
كان عمي أحمد "رحمه الله وأدخله فسيح جناته"أحب أهل الأرضِ إلي,كنتُ أحبهُ أكثر من أبي ذاته.
كان لا يفوتُ عيداً ولا مناسبةً إلا وصنعَ لي بذلتي بيده..مذ كنتُ في حدود السابعة,إلي أن توفاهُ الله.
كان عمي معطاءً ببذخٍ وربما فيما يري الرائي باستهتار.باختصار كان يعطي عطاء من لا يخشي الفقر,ومن هنا أعطاهُ الله من وسعٍ كثير.
إلا أن عمي ,رحمه الله,لم يكن يصلي,إلا في أواخر حياته,والله أعلم هل كان يصلي باستمرار أم متقطعاً.
المهم أنه أعطي,واذكرُ أنني منذ مات أظلمت في وجهي الكثير من الطرقاتِ في حياتي.
أحياناً حين اقعُ بمشكلةٍ عويصة,لا أحبُ أن اعرضها علي أحد"سوي حبيبتي"إذ أنها الوحيدة التي تفهمني,إلا أنني أحياناً أقول"لو أن عمي كان موجوداً في حياتي إلي تلك اللحظة,لحلت كثيرٌ من مشكلاتي".
أقول رحمه الله,وازعم أنه سيكون بإذن الله بالجنة,رغم قلةِ عبادته.ولكن ألا يعتبرُ منحِهِ وعطائهِ عباده.....؟!.
كان هناك الكثيرون في حياتي,هناك صديقي مصطفي,وأذكر من مراته الكثيرة التي غمرني,يوم ألأحد30/1/2011.بعد أن كتب الله لنا عمراً بعد موتٍ محقق,كنت أنتظر أخي ليعطيني نقوداً,ولم أكن أملك سوي جنيهٍ علي ما أذكر,ولما كنت لا أعود للبيت وهو يعود,حين ذكرتُ له ذلك,أخرجَ كل ما بجيبه وقال خذ قدر ما تشاء,خذهم واترك لي ثمن المواصلات.وكنتُ قد ضللتُ عن لقاءِ أخي.
وحين أخذتُ ورقةً مد يدهُ بأخرى وقال خذ.
هناك أختي الكبرى,التي تزوجت منذ أيامْ,أعطتني كما لم يعطِ أحدْ.وحين تزوجت ,كان مقدارُ سعادتي كمقدار حزني علي فراقها.
هناكَ حسام وأحمد ويسري ومؤمن,رغم اختلافنا كثيراً,من التفكير ومناهجه,حتي الأمور الدينيةِ و السياسية,إلا أن قدر منحهم لي لا يعوض ولا يقاسْ.
هناك أيضاً ذلك الرفيق الصوفي"ولن أذكر اسمهُ لأنه لا يحب"0
هناك الكثيرون وعلي رأي الرفيق الرائع دخاخني "لا أريد أن أكون غنيًا، أريد فقط النقود لتقديم الهدايا"وكان هذا ديدنهُ دوماً.
هذا الفتي أعطاني الكثير,مما لا يعلم هو أنه أعطاني.ودوماً أصفه بذلك البيت:
تراهُ إذا ما جئتهُ متهللاً *** كأنكَ تعطيهِ الذي أنتَ سائِلُهْ.
هذا الفتي مذهلٌ فيما قدمهُ لي.
وكي لا أطيل , القائمةُ طويلةٌ و كثيره ,كما أن قائمةَ الأشرارِ أيضاً طويلة و عريقة .
ظهر في حياتي الكثير,هناك من اختفوا لكن آثارهم ما زالت بين جوانح قلبي,ألمسها حينَ أحتاجها.
دوماً ما أحبُّ أن أتذكر الخير لمن فعل,وأظن أن هذا هو الصحيح,ألا تذكر الشر أو المجانبِ للصواب,أن تذكر الخير,وحين كتبتُ وصيتي يومَ11فيراير/2011وكنت قد شعرتُ بقربِ المنالِ ,واقتِرَابِ الزوالِ,وكشفِ المحجوبِ وتجلي الأنوار,واخضرارِ الزهارِ وذبولها,كتبتُ قائلاً"...لكن أتمني أن تذكروني جميعكم بالخير ـ كل من أعرفهم ـ أذكروني دائماً بالخير,لا تذكروا مساوئي,واذكروا حسناتي القليلة".
غمرت حياتي في الآونةِ الأخيرة,مكاشفاتٌ كثيره ,و عطائاتٌ ومنحٌ لا أعلمُ مداها,وأناسُ غيروني كثيراً للأفضل,وأناسٌ ملئوا حياتي بركةً ونوراًً..
أذكرُ من أيام,أني كنتُ مكروباً,هاتفتُ صديقتي ,لا لشئ لم أردِ الحديثَ أو النقاش في أي شئ ,فقط رفعتُ سماعتي وظللتُ صامتً,لا أعلمُ لماذ!!..
أنارَ الكثيرُ شموعَ طريقي,واليومْ,شعرتُ بنعمةِ المنحِ والعطايا ,جاش صدري بالكثيرِ من المشاعرْ.
تمنيتُ أن أملكَ الدنيا ,لا لشئ فقط,لأمنحَ واهبَ وأعطي!".
شكراً لكلِّ من أعطي,وشكراً للعاطي الواهب المانحِ بلا شرطٍ ولا غَرَضْ.
خاتمه:
يَا خَالِقَ القَلبِ المَهِيضِ جَنَاحُهُ           أَكْرِمْ بِهِ وتَوَلَّهُ بِعِنَايَتِكْ
مَا أَجمَلَ أَن تَكُونَ شَمعَةً..أَو بَحْرَاً... أو مَرفَئَاً.

08:20م.
الاثنينْ.
27/2/2012م.
كتبتُ هذه التدوينه دون سماعِ الموسيقي.

الخميس، 23 فبراير 2012

خَوَاطِرُ مَحجُوبْ . .


(1)
أَحياناً يقفُ العَقلُ عن التفكيرْ,وأحياناً يتبلدْ,إنهُ ليس غبيّ وإنما هو قد تعبْ.
أحياناً يشتغلُ تفكيراً ,ويعملُ كخليةٍ في النَّحلْ..
أحياناً كثيره أشعرُ أنني كطائرٍ جريحٍ فقدَ جناحاهُ وجرحَ حتي دَمِيْ .وأحياناً اشعرُ أنني كورقةٍ صغيرةٍ في مهبِّ الريحْ,تسائلتُ لو أن هناك في تلكَ الورقه الهائمه,الطائره,كلمه,ما هي تلكَ الكلمه,هي لن تخرج عن إحدي كلماتٍ ثلاث"عِشقٌ وفكرةٌ ومبدء" . .
من تفكيرٍ عميقٍ وسهرٍ طال لياليَ وايامْ,لن تجد أفضل من تلكَ الثلاث لتعيشَ لهم وتدافعَ عنهم طيلةَ حياتِكْ.
أن تضعَ بقلبكَ ووجدانكَ حبكْ,متلفعاً ببردةِ مبدئكَ,واضعاً فكركَ في سلوككْ.
(2)
لن أسمي كثيراً أو أضعَ ألقاب,أعطيتُ قدرَ ما أستطيع,وكيفما استطعت واقتدرتْ,أنتِ كنتِ مذنبةً يا فتاة,عليكِ أن تعترفي بخطئِكِ وتصالحي نفسكِ,إن كل ما عليكِ فعلهُ ان تصارحي نفسكِ وتصالحيها وتصادقيها.
**هذا الكلام ليس للحبيبه بطبيعة الحال.
(3)
أختي تزوجتْ أمسْ,كنتُ فارِغَ الروحِ محنطَ القلبِ عندما عدتُ للبيتِ ولم أجدها.
أُُخِذْتُ في غمرةِ فرحتي بسعادتها وعدتُ كمن كان يحملُ شيئاً ثقيلاً وزادَ,ولم يخفّ.
كانتْ أمِّي التي لم تلدني,دوماً تدخل علي حين أبكي.أبثها شكوايَ وحزني,افكاري الغريبه,لطالما أعطتني نقوداً كثيره,وأنا صغير.
ليس فقط وأنا صغير بل وأنا كبيرٌ أيضاً.
كنتُ حين اريدُ شيئاً عندما كنتُ صغيراً أَخِفُّ إليها,فتغرقني مما أريدْ.ليس لأنها تملكُ ما أريدُ كاملاً,إنما لأنها تعطيني قدر ما تستطيعْ.
أغضبتها كثيراً وزِدتُ في غضبها,لكن عندما عدتُ كآبِقِ,لم أجد سوي حضنها الحنونْ.
لَيسَ أصعَبَ مِن فِرَاقْ,وإن كان فِرَاقَاً سَعِيداً . .
أختي ..
دوماً سأحلفُ بحنانكِ وتحنانِكِ الصَّافِيينْ.
كوني بخيرٍ لجليْ.
(4)
عدتُ فارغاً,تحادثنا حولَ أمور كثيره,عن اللهِ,وجمالهِ,وطيابته..عن جودهِ وكرمهِ,عن تقديرهِ الخير لنا وإن كنا نظن شراً..
الله طيب وجميل,رحيم,لكنه قهارٌ جبار. عَنِ المسلمينَ وغيرهم,عن الإنسانيه,عن الصلابه والمبدءْ.
تحادثنا عن بوذا وإحتمالية كونهِ رسولاً.
عَنِ المسلمينَ وغيرهم,عن الإنسانيه,عن الصلابه والمبدءْ.
ينعشني حديثي معهما ووقفتي,حتي وإن تحادثا في ما لا يفيد وضاع وقتي.
مجرد كوني معهما يسعدني كثيراً,رغم كبري عنهما.
لطالما أردتُ منحكما ما استطعتُ وما تريدان.وسأقفُ معكَ كما لو كنتُ انا في مثلِ موقفكْ..
وسأمدكَ دوماً يا رفيقي الآخر بكل ما استطعتُ وما أستطيعْ,ربما سنصيرُ عائله أكثر قرباً.
(5)
أشعرُ بأشياء كثيره,عجيبه,وغريبه,قويه وضعيفه....
متناقضه أحياناً تجاهه..
أدرسهُ كظاهره إجتماعيه,ولطالما كنت معجباً به رغم اختلافنا في كل ما طرء ويطرأُ علينا.لكني سأدعمهُ بكل قوتي..
أخي الصغيرْ.
(6)
هناكَ موجٌ دَاِخِليْ متلاطِمٌ,
هُنالِكَ شمعةٌ ذابله ,
وورده . .
وردةٌ يابسةٌ . . كذلكَ المَاضِيْ البعيدْ
حِينَ كنتُ صغيراً ,وأصحو
مُبلِّلاً فِراشِي ,
ربما ,
خوفاً ,
وجلاً ,
وربما لأستدفِئْ .
أبتَسمُ لصورتي الصغيره ,
مبتسماً ,
مرتدياً بذَّتِي ,
مترحماً علي عمِّيَ الكَسِيرُ الذي صنعها بيديهِ الكريمتينْ
 أتطَلَّعُ لذلِكَ اليومْ ,
حينَ قابلتُكِ ساهمةً ,
شارده,
مُتَأَلِّقَةً ,
متلَفِّتَةً ,دوماً .  .
أحِبُّكِ ,
حُبَّ الَّذيْ
يُحِبُّ المَوجَ إذْ يَغشاهْ . .


11:20م.
الخميس.
23/2/2011.
كتبتُ ما كتبتُ,وأنا حَزِينٌ في ظلامٍ دامسٍ,دونَ موسيقي.


السبت، 18 فبراير 2012

"لقيماتٍ يقمنَ صُلبَهْ" . .!! .


(حسبُ ابن آدَمَ لُقيماتٍ يُقِمنَ صُلبَه) ,هذا الحديثُ الشريفُ تربينا عليهِ واعتنقناهُ جميعاً,مذ كنا طلاباً في الإبتدائيةِ المصريةِ العَجفاءْ.
والذين علمونا هذا الحديث لم يعلمونا كيف نستخدمه !! .
باعتباري شخصٌ يحبُ التفكير ويأخذ كل شئٍ في حياتِهِ بشئٍ كثيرٍ من التفكير"وهو ما أوقعني بمشكلاتٍ كثيراتْ" . . كنت قد اتخذتُ مثلَ هذا الحديثِ الشريفِ مَنَارةً وصراطاً.
كنتُ لا آكلُ كثيراً وكنتُ أردِدُ"حسبُ ابن آدم لقيماتٍ يقمنَ صلبه" ,وكنتُ أمكثُ طيلةَ اليومِ خارجَ المنزل دون طعامٍ,سوي مرةٍ واحدةٍ في اليومِ,أو مرتينِ خفيفتينِ,من طعامِ المطاعمْ,ولم أكن أحب أن آكل(الشاورما والبورجر ـ رغم عدم دخولهما في هذا الحديث) .
كان هذا ديدني في هذه الأمور,إلي أن مرضتُ منذُ سنتينِ وعندما ذهبتُ للطبيبِ قال لي أن عندي"فقر دم"ذلك أنني لا أتغذي جيداً,ولا آكلُ ثلاث  وجباتٍ في اليومْ.
 أخذتُ علاجَ الطبيبِ,ناهيكَ عن أني لم أعد للطبيبِ سوي مرةٍ واحده,وأني لم ألتزم بأدويتهِ التي تضجرنيْ.
مر الوقتُ سريعاً,إلي أن وعكتُ وعكةً شابَ لها شعرُ رأسي,وهي الوعكةُ التي أمر بها الآنْ.
في هذه الوعكه ,كان ضِعفُ جسدي بادياً في تعاملهِ مع المرضْ.فبان ضعفه يخفتُ أمام قوةِ المرضِ الذي ينتهبُ الجسدْ.
هنا تذكرتُ الحديثَ الآخر,أو الأثر(إن لبدنكَ عليكَ حقْ).
الشاهدُ:
هذا الحديثُ تشدقنا به كثيراً,لكن فاتنا,أن هناكَ ما هو في الدين مما هو ليس من الثوابتِ ,لا يتعامل معه إلا بوضعهِ في الظروفِ المحيطةِ به,كما أنهُ لا يفهمُ إلا بالحديثِ الآخر(إن لبدنكَ عليكَ حق) .
ينبني علي ذلك الكثيرُ مما يشغلنا به الإسلاميون(القدامي والجدد)من أنه من الإسلامِ ,مالا يستقيمُ حال البلادِ والعبادِ إلا به.
أذكر في المجال الإجتماعي مثالاً أخراً صغيراً,الحديث الذي يقول"بتصرف,لأني لا أستطيع القيام الآنَ للبحثِ في الصحيحين"تكاثروا فإني أباهي بكم الأممَ يومَ القيامه.
هذا الحديثُ لا يفهمُ إلا في سياقِ كل حاله,ولا يفهم إلا في سياقِ حديثٍ آخر"كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته".
وفي كل حاله,يجب علي الإنسان أن يسألَ نفسهُ"برأيي المتواضع" عند إنجابِ كل طفلٍ له(هل أنا علي قدر المسئوليه؟وهل أنا قادرٌ علي القيامِ بواجبي تجاه الجميع؟وهل انا قادرٌ علي السعي علي المولودِ الجديد؟لأن الله يقول"اسع يا عبدي أسعَ معك,وبالطبعِ فإن سعيي علي ولدينِ لن يكون كسعيي علي أربعةِ أولاد.).
هذا ما عَنَّ لي في هذا الأمرْ,وأسالُ الله التوفيقَ والسداد من عنده.
وادعوا لي بالشفاءْ.
الجمعه.17/2/2012م.
01:56ظهراً.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

نَبتُ الأرضِ وابنُ السماء..الفَصْلُ الأَوَّل:الخَلقُ والتَّطُوُّر...2..



إِزدِوَاجِيَّة العَالَمْ الحَيّ:
يَتَسَائَلُ بِيجُوفِيتش"هل نحن قادرون الآن وفي المستقبل على إنتاج الحياة؟ الجواب: نعم، إذا استطعنا أن نفهم الحياة، فهل نستطيع؟ إن علم «البيولوجيا» ليس علمًا عن جوهر الحياة، إنما هو علم يتعلق بظواهر الحياة، بالحياة كموضوع، كمُنتج".
يَضَعُ علي المُفكرين الماديين أَمَامَ سُؤالٍ ,سَأَلَهُ
أندريه جورج"عام1950م,لعلماء البيلوجيا والأطباء"
ما هي الحياة؟".وماذا كانت الإجابات يجيب علي" وكانت جميع الإجابات التي تلقاها حذرة وغير محددة. ولنأخذ في ما يلي إجابة كل من «بيير لابان» و«جان روستاند» كنموذجين نمطيين: «يظل السر كاملاً، فنقص معلوماتنا تجعل كل تفسير للحياة أقل وضوحًا من معرفتنا الغريزية بها»[1]. «حتى الآن لا نعرف على وجه التحديد ماهية الحياة. نحن لا نستطيع حتى أن نقدم تعريفًا كاملاً دقيقًا لظاهرة الحياة" .
يستشهد بيجوفيتش بقول أندريه لوف,وهو عالم أحياء  فرنسي  حاصل على جائزة نوبل سنة 1965، والمشهور بأعماله في الآليات الجينية للفيروسات والبكتيريا,قال أندريه"يمكن تعريف الحياة باعتبارها كيفية، أو مظهرًا، أو حالة كائن حي، والكائن الحي نظام مستقل يتكون من أبنية ووظائف يعتمد بعضها على بعض وهي قادرة على التوالد... وقد قيل دائمًا إن الفيروس هو الرابطة بين المواد العضوية والمادة الحية. وفي الحقيقة، لا وجود للمادة الحية. فالخلية تتكون من عناصر: البروتين، والإنزيم، والحامض النووي، وهذه العناصر ليست عناصر حية، الكائن العضوي هو الحي، وهذا الكائن العضوي، هو أكثر من مجموع أجزائه. لقد نجحنا في تخليق مركب من أحماض نووية فيروسية، وهذا في حد ذاته لا يعطينا الحق أن نتحدث عن تركيبة حياة، لأنه في جميع هذه التجارب أُعير إلى الفيروس عنصر، وهو عنصر جيني خاص بعملية التنويه «Nucletide».. وأحيانًا تنبثق الحياة تلقائيًا من حيث لا نحتسب... من السهل علينا إنتاج بعض أجزاء البروتين أو الحامض النووي، ولكن حتى الآن لم يصبح من الممكن بعدُ تخليق كائن حي... توليد بكتيريا واحدة ـ إن هذا لم يصبح بعد في إمكاننا الوصول إليه".
يُقَرِّر بيجوفيتش أن الحياة معجزة أكثر منها ظاهره ,ويمضي في بسط أمثلة ,بالعينِ والمُخِ,وغيرها من أعضاء الإنسان,ويدلل علي تلك المعجزة بالدلائل العلمية.
ويمضي مرةً أخري في طريقٍ أخر لسردِ المعجزات,فبعدَ العَينِ والمُخِّ ,انطلقَ نَحوَ الطُيُورِ والنَّمْلْ.
ثمّ يسأَلْ بَعدَ أَنْ يُقَرِّر" هذه الأمثلة السابقة أخذت من أول كتاب دراسي في علم الأحياء. هذه المعجزات الحقيقية في الطبيعة يفسرها الدين باعتبارها أفعالاً للعقل الأسمى (الله سبحانه وتعالى). ويمكن اختصار جميع التفسيرات العلمية في هذا المجال بأنها معجزات خُلقت بذاتها ـ أليست هذه أكبر خرافة غزت عقل الإنسان؟ أن تطلب من شخص ما أن يتقبل عقله أن شيئًا على درجة من الكمال والتعقيد كعين الإنسان أو عقله قد وُجد بمحض الصدفة، يشبه أن تطلب من شخص أن يقبل بأن الأساطير الإغريقية حقائق واقعة. دعنا نلخص الموقف بكلمات من الفيلسوف الإسلامي العظيم «أبو حامد محمد الغزالي»: إن جميع المعجزات طبيعية، وإن الطبيعة كلها معجزة".
يضيف بيجُوفِيتش بَعدَ تَجَارِبْ قَامَ بِهَا عُلَمَاءُ لحساب كم يلزم   لخلق بالصدفه جزئ واحد من البروتين ,وتجارب أخري .ثم يضيف قولا للعالم الروسي"بلاندين"قوله" لو أن مليون معمل على الأرض عملت لبضعة ملايين من السنين في تركيب العناصر الكيميائية، فإن احتمال خلق حياة في أنبوبة اختبار ستكون شيئًا نادرًا. وطبقًا لحساب «هولدن» Holden، فإن الفرصة هي (1 إلى 1310)".
بعدَ كُلِّ تِلكَ الدَلائِلْ ,يقول علي عزت"إن ضيق أفق الإنسان الحديث يتجلى، أكثر ما يكون، في اعتقاده بأنه لا يرى أمامه لغزًا، كأن حكمته هي مجموع علمه وجهله معًا. إنه جهل، ولكن الإنسان غير واع به، حتى إنه يتقبله باعتباره معرفة، في مواجهة أعظم لغز يتصرف بعنجهية وغرور، حتى إنه لا يرى المشكلة. وفي هذا يتجلى الحجم الحقيقي لجهل الإنسان وتعصبه".
                          *****
انطلاقاً مِنْ كُلِّ هَذا ,يخرج بيجوفيتش بنتيجه لخصت الكثير؛حيثُ يَقُولْ "من مهام الدين والفن والفلسفة توجيه نظر الإنسان إلى التساؤلات والألغاز والأسرار. وقد يؤدي هذا أحيانًا إلى معرفة ما، ولكن في أغلب الأحيان يؤدي إلى وعي بجهلنا، أو إلى تحويل جهلنا الذي لا نشعر به إلى جهل نعرف أنه جهل. وهذا هو الخط الفاصل بين الجاهل والحكيم. وأحيانًا يكون كلاهما على معرفة قليلة ببعض المسائل، إلا أن الجاهل ـ بعكس الحكيم ـ يأخذ جهله على أنه معرفة ويتصرف بناء على ذلك".
" إننا لا نستطيع تفسير الحياة بالوسائل العلمية فقط، لأن الحياة معجزة وظاهرة معًا، والإعجاب والدهشة هما أعظم شكل من أشكال فهمنا للحياة".
مَعنَي الفَلسَفَة الإِنسَانِيَّة:
ينطلق علي مما قال عنهُ الماديونَ "السعي من أجل المتعه,والهرب من الأَلَمْ"ويُعَقِّب بِقَولِ كَامُو" الإنسان حيوان يرفض أن يكون كذلك".
يعود علي ليفرق بين الإِنسَانِ والحَيَوَانْ ,فالحَيَوَانُ دَومَاً بَرِئٌ بِدونِ خَطَايَا ,وَمُحَايِدٌ من النَّاحِيَةِ الأَخلاقِيَّة ,كَأَنَّهُ شَئٌ مِنَ الأَشْيَاء..أَمَا الإنسَانْ,فلا يستطيعُ أَنْ يَخْتَارَ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانَاً بَرِيئَاً"لَمْ يَعُدْ مُمْكِنَاً للإِنسَانِ أَنْ يَختَارَ بَينَ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانَاً أَو إِنساناً,إِنما اختيَارُهُ ,أَنْ يَكُونَ إِنسَانَاً أَوْ لا يَكُونَ إِنسَانَاً".
وَيُقَرِّر" لو كان الإنسان ببساطة أكثر الحيوانات كمالاً، لكانت حياته بسيطة خالية من الأسرار. ولكنه ليس كذلك، إنه «دودة الأرض وابن السماء»، ولكونه مخلوقًا فهو كائن مشوش. ولذلك، فإن «التناغم» الذي ذهب إليه الفيلسوف اليوناني «إقليدس» غير ممكن. وليست حقيقتنا الأصلية وحدها قائمة على فكرة الخلق، ولكن أيضًا خطايانا وآثامنا".
إِنَّ قَضِيَةَ الخَلقِ عِندَ عَلِي هِيَ قَضِيَّةُ الحُرِّيَّة الإنسانِيَّة ,فالإِنسَانُ حِينَ يَكُونُ حُرَّاً فَإِنَّهُ يكونُ قد اعتَرَفَ ضِمْنَاً بِالله.فاللهُ وَحْدُهُ هُوَ القَادِرُ عَلَي خَلقِ إِنسانٌ حُرّ.
" فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق . الحرية ليست نتيجة ولا إنتاجًا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. إن الله لا ينتج ولا يشيد، إن الله يخلق".
وَحَيثُ أَنَّ الإِخْتِيَارَ يَتَرَتَّبُ َلَي الحُرِّيَّة,يَقُولُ علي" هذه القدرة على الاختيار بصرف النظر عن النتيجة، هي أعلى شكل من أشكال الوجود الممكن في هذا الكون".
                              *****
يفرق بيجوفيتش بين الإِنسانْ وَعَلمُ النَّفس" الإنسان يملك روحًا، ولكن علم النفس ليس علمًا معنيًا بالروح، فلا يمكن أن يوجد علم عن الروح".
هُناكَ فرقٌ بينَ الرُوحِ والنَّفسْ ,وَعِلمُ النَّفسِ عِلمُ الظَّوَاهِرِ الخَارِجِيَّة لإِنسَانْ ,لا عِلم روحَانِي..
وبهَذَا لا فَرقَ بَينَ عِلمِ النَّفسِ الإِنسَانِيّ وَالحَيَوَانِيّ.
                         *****
يَتَنَاوَلْ عَلِيْ فِكْرَة المُسَاوَاة والإِخَاء ,فَيُقَرِّرُ أَنَّهُمَا مِنْ دُونِ الدِينِ والوازِعِ الرُّوحِيِّ بِلا قِيمَةَ,إِذ"  إذا تجاهلنا القيمة الروحية ـ وهي حقيقة ذات صبغة دينية ـ يتلاشى الأساس الحقيقي الوحيد للمساواة الإنسانية. وتبدو المساواة، حينئذ، مجرد عبارة بدون أساس ولا مضمون، وسرعان ما تتراجع وهي تواجه الوقائع الدالة على اللامساواة بين الناس، أو الرغبة الطبيعية للإنسان أن يسيطر وأن يطيع، ومن ثم لا يكون مساويًا للآخر. فطالما حذفنا المدخل الديني من حسابنا، سرعان ما يمتلئ المكان بأشكال من اللامساواة: عرقيًا وقوميًا واجتماعيًا وسياسيًا".
وينطَلِقْ مِن هَذَا إِلَي فِكرَة أَنَّ المُسَاوَاة مُمكِنَةٌ فَقَطْ إِذا كان الإنسَانُ مَخلُوقَاً لِله,وكما قال أن الإنسانَ يَكُونُ حُرَّاً إِذا كَانَ مخلوقَاً لِله ,فإنهُ يكونُ عندَهُ مُسَاوَاة إِذا كَانَ الله تَعَالَي قَدْ خَلَقَهْ.
يتسائَلُ عَلِي"لماذا نصادف كثرة من المعوقين حول المساجد والكنائس والمعابد التي نذهب إليها؟ لأن بيوت الله وحدها تفتح أبوابها لأولئك الذين ليس لديهم ما يعرضونه أو يبرهنون عليه، أولئك الفقراء في المال والصحة، أولئك الذين استبعدوا من موائد الاحتفالات في هذا العالم، حيث يُدعى الشخص لاسمه أو حسبه ونسبه أو موهبته أو علمه. إن المريض وغير المتعلم يُغلق أمامه باب المصنع أيضًا بينما يدخل المتعلم صحيح البدن. أما في بيت الله فإن الفقير والأعمى يمكن أن يقفا جنبًا إلى جنب مع ملك أو نبيل وقد يكونا عند الله أفضل منهما  إن أهم معنى حضاري وإنساني لأماكن العبادة يكمن في هذا البرهان المتكرر للمساواة".
من هُنا ,ينطلقُ إلي المَعنَي والمَبْدَء الأساسي لِلفَنْ,إِذ أَنَّ وَظِيفَةَ الفَنِّ كَمَا يُقَرِّرْ"المعنى النهائي للفن أن يكتشف الخصوصية الإنسانية في الناس الذين أساءت إليهم الحياة، وأن يكشف عن النبل الإنساني عند أناس صغار منسيين في خضم الحياة ـ وباختصار أن يكشف عن الروح الإنسانية المتساوية القيمة في جميع البشر".
" ليست الإنسانية إحسانًا وعفوًا وتحملاً، وإن كان هذا كله نتاجًا ضروريًا لها. لكن الإنسانية، بالدرجة الأولى، توكيد لحرية الإنسان، أي توكيد لقيمته باعتباره إنسانًا".
يري علي أن من الإِنسانية أن يعاقَبَ الإِنسانُ علي خطئِهِ لا أن يعفو عنه.من الإنسانية أن يتحمل مغبة فكرة واعتقادهُ ,لا أن نجعلهُ يتأسَّفْ أو يغيرُ رَأيَهُ ,يَقُول" إنها أكثر إنسانية أن يُعاقب إنسان بسبب معتقداته من إجباره على التخلي عنها أو التبرؤ منها بإتاحة الفرصة المعروفة باسم «الأخذ في الاعتبار بموقفه المخلص». ولذا، فهناك عقوبات إنسانية، وعفوٌ هو أكثر شيء لاإنساني. كان محققو محاكم التفتيش في الماضي يزعمون أنهم يحرقون الجسد لكي ينقذوا الروح، أما المحققون المعاصرون، فإنهم يفعلون العكس «يحرقون» الروح بدلاً من الجسد...".

وينطلقُ علي ليقول" إن أي تلاعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لاإنساني، أن تفكر بالنيابة عنهم وأن تحررهم من مسئولياتهم والتزاماتهم هو أيضًا لاإنساني. إن نسبة الإنسانية إلينا تجعلنا ملتزمين. فعندما وهـب الله الحرية للإنـسان وأنذره بالـعقاب الشـديد، أكد ـ على أعلى مستوى ـ قيمة الإنسان كإنسان . إن علينا أن نتبع المثل الأعلى الذي وضعه الله لنا: لندع الإنسان يجاهد بنفسه بدلاً من أن نقوم بعمله نيابة عنه".
ويخلُص علي إِلي نتيجة هامه ,هِي" إن القول بمذهب إنساني ملحد ضرب من التناقض، لأنه إذا انتفى وجود الله انتفى بالتالي وجود الإنسان . كما أنه ما لم يوجد إنسان، فإن «الإنسانية» التي يزعمونها تصبح عبارة بلا مضمون. إن الذي لا يعترف بخلق الإنسان لا يمكنه أن يفهم المعنى الحقيقي للإنسانية. وحيث إنه افتقد القاعدة الأساسية، فإنه سوف يقلص الإنسان إلى مجرد «إنتاج السلع وتوزيعها وفقًا للحاجة".
بعد كل هذه البراهين  والأدلة,ينهي بيجوفيتش فصلَهُ الأَوَّلْ ,بِقَولِهِ" ولا يصح عندنا أن يكون الإنسان خادمًا لأي إنسان، ولا ينبغي أن يتخذ وسيلة، بل يجب أن يوضع كل شيء في خدمة الإنسان. فالإنسان خادم لله فحسب، وهذا هو المعنى المطلق للإنسانية".
عبدالرحمن ناصر.
الاثنين.
10:10م.
5/12/2011م.


       





الاثنين، 14 نوفمبر 2011

نَبتُ الأرضِ وابنُ السماء..



كمدخلٍ لفكر علي عزت بيجوفيتش,فإنه يمايز بين ثلاثة أنماط أو وجهات نظر متكاملة عن العالم هي:
1ـ نظرة دينية,وهذه تتمثل في الدين المسيحي.
2ـ نظرة مادية,وتلك تتمثل في اليهود,وما تلاها من فلسفات إلحادية مادية.
3ـ نظرة الإسلام,وفي نظرة هي النظرة الكاملة حيث تحتوي علي العنصرين الآخرين دون إفراطٍ أو تفريط.
 *****
القسم الأول:المقدمات.
الفصل الأول:الخلق والتطور.
داروين ومايكل أنجلو:
يمايز بيجوفيتش بين نظرة الدين والفلسفة المادية لقضية "أصل الإنسان" ,فبينما يري العلم"المادية"الإنسان كنتيجة لعملية تطور ابتداءاً من أول أشكال الحياة ,حيث لا يوجد فرق بين الإنسانِ والحيوان .يقول جون واتسون"إنه لا يوجد خطٌ فاصلٌ بين الإنسان والبهمية".
بينما الدين يري الإنسان وقضية الخلق ليست عملية بل هي فعلٌ إلهي .وليس مستمراً ؛إنما هو مفاجئ,إنه فعلٌ أليمٌ مفجع.
يري الماديون أن الإنسانَ حيوانٌ كامل..والفرقُ بين الإنسان والحيوان فرقٌ في الدرجة وليس في النوع ,وليس هناك جوهر إنساني متميز.
يقول أنجلز" إن الإنسانُ نتاجُ بيئته وعملهِ,وما خلق الإنسان إلا عمليه بيولوجية" ."إن الإنسان نظامٌ كغيرهِ من النظم الطبيعية يخضع للقوانين الطبيعية الحتمية".
في الفلسفة المادية يفكك الإنسانُ إلي أجزائِهِ التي تكونهُ ثم يتلاشي في النهاية.
*****
ينطلق علي عزت بعد ذلك لينظر إلي لوحات مايكل أنجلو في كنيسة"سكستين",وهنا يخرج بنتيجة حيث يقول"يقف العلمُ والفنُ علي طريق تصادمٍ قطعي ,فالعلمُ يحصي الحقائق التي تؤدي بطريقة عنيدةٍ إلي الإستنتاج  بأن الإنسان قد تطور تدريجياً من حيوان إلي إنسان".
يشير بيجوفيتش إلي أن الدين يري أن في الإنسان حيوانية ,لكن هناك فارق بين (حيوانية الدين,وحيوانية المادية )"فالدين يذهب إلي أن الحيوانية جانب من جوانب الإنسان .وإنما يكمن الفرق في مدي شمولية هذا الجانب .فطبقاً للعلم"المادية":الإنسانُ ليس أكثر من حيوان ذكي ,وطبقاً للدين:الإنسانُ حيوانٌ مُنِحَ شخصية ذاتية".
تظهر إزدواجية الإنسان عند بيجوفيتش(كما يتبني أيضاً إزدواجية الكون) ,تظهر الإزدواجية حين يقول"المعني المزدوج للأفكار المتعلقة باسم الإنسان ,هو نتيجة إزدواجية الطبيعة الإنسانية ,جاء أحد جانبيها من الأرض وجاء الأخر من السماء.عند بيجوفيتش تعبيرٌ عن الإنسان هو عنوان هذه المقالة"نبتُ الأرضِ وابنُ السماء".
يشير بيجوفيتش أن الماديين قد دأبوا علي توجيه أفكارنا تجاهَ الأشياءِ الخارجية.فاليد عند أنجلز ليست فقط هي التي تعمل ,وإنما هي نتاجُ ذالك العمل ,فمن خلال العمل اكتسبتِ اليدُ تلكَ المهارة والإتقان الذي أخرج لنا لوحات"رافيللو"وموسيقي "باجانيني".
وهنا يرد علي"إنما يتحدث عنهُ أنجلز هو استمرارية النمو اليبولوجي  وليس النمو الروحي .وفن التصوير عمل روحي وليس عملاً تقنياً .فقد أبدع"رافائيل"لوحاتهُ ليس بيدهِ وإنما بروحِهِ.وكتب"بيتهوفن"أعظم أعماله الموسيقية بعد أن أصيبَ بالصمم.إن النمو البيولوجي وحدهُ حتي لو امتد إلي أبدِ الآبدين,ماكان بوسعهِ أن يمنحنا لوحات "رافائيل",ولاحتي صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ .هنا نحن أمام جانبين منفصلين من وجود الإنسان".
وبتلك العبارات السابقة أيضاً يدلل بيجوفيتش علي إزدواجية الإنسان.
هنا يحلل بيجوفيتش نفس الموقف بطريقةٍ غايةٍ في البساطة والروعة والتأمل ,إذ يقول"إن الكائن الإنساني ليس مجرد مجموع وظائفه البيولوجية المختلفة.كذالك الوضعُ بالنسبة للوحة الفنية ,ليمكن تحليلها إلي كمية الألوان المستخدمة فيها ,ولا القصيدة إلي الألفاظ التي تكونها .صحيح أن المسجد مبني من عددٍ محددٍ من الأحجار ذات شكلٍ معين وبنظامٍ معين ,ومن كمية محدودة من الملاط والأعمدة الخشبية ,إلي غيرِ ذالكَ من موادِ البناء ..ومع ذالك,فليست هذه كل الحقيقة عن المسجد,فبعد كل شئ هناك فرقُ بين المسجد وبين معسكرٍ حربي.
المثالية الأصلية:
يؤكد بيجوفيتش "إننا نقول أن الإنسان قد تطور,وهذا صحيح ,ولكنه يصدق فقط بالنسبة لتاريخه البشري الخارجي .الإنسان كذالك مخلوق ,وقد انصب في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان ,ولكن أيضا أن معني حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان الذي بداخله.
يبدأ علي في إبداء الفروق بين الإنسان والحيوان ,فبينما المبدأ الوجودي العام للحيوان هو "الكفاءة والمنفعة"فإن المبدأ الوجودي العام للإنسان ,يختلف عنهما..علي هذا النحو.
1ـ الكفاءة:
إن المجتمع الذي به مبادئ أخلاقية تُضعف كفاءة الإنسان ,إذ أن كل شئ يفعلهُ سيخضع لتلك المبادئ ,هنا يقول علي عزت"إذا كان لدينا نوعان من أنواعِ الكائنات علي درجة واحدة من الذكاء  ,فإن النوع الذي لديه مبادئ أخلاقية  سرعانَ ما ينقرض .ويعوض الإنسان عن قصورة في القوة ـ الناتج عن إلتزامه الخُلُقِي ـ تفوقه في الذكاء إلي جانب قدرات أخري مماثله.
يؤكد بيجوفيتش "بصفة عامة ليس في الإنسان شئ غير موجود أيضاً في المستويات العليا من الحيوانات والفقاريات  والحشرات.فهناك شعور وذكاء ,ووسيلة أو أكثر من وسائل  الاتصال ,وهناك الرغبة في إشباع الحاجات .لكن ليس في عالم الحيوان شئٌ ما يشبه ـ حتي ولو بشكل بدائي ـ الدين أو السحر الدرامي".وهنا محور إذ يقول علي"إن تطور الحيوانات قد يبدو منطقياً متدرجاً يسهل فهمه ,إذا قورن بتطور الإنسان البدائي  الذي تستحوذ عليه محرمات ومعتقدات غريبه.فالحيوان عندما يذهب للصيد ,يسلك سلوكاً منطقياً عقلانياً جداً.إنه لا يترك أدني فرصة متاحة إلا اقتنصها .هنا ,لا مجال للمعتقدات الخرافية أو ما يشبه ذالك"
يعبر بيجوفيتش عن دقة التنظيم في الحياة الاجتماعية التي تخلو تمامً مما نسمية بالإنسانية :كحماية الضعيف والمعوق,والحق في الحياةوالاهتمام.....إلخ,يعبر عن كل ذالك,بالنحل إذ"تعامل النحل أعضاء مجتمعها التي لا فائدة منها بقسوة بالغة,إذ ترميها خارج الخليه".
يباين بيجوفيتش بين الحيوان الذي يقاتل من أجل البقاء,إذ الحيوان يذهب للصيد عهندما يريد ذلك,وبين الإنسان البدائي الذي يخضع لطقوس معينه ..حتي زوجته في البيت تخضع لطقوس وقيود معينه إذا تخطئها ربما تفشل بعثة الصيد..باختصار الحيوان كائن عقلاني,والإنسان كائن غير عقلاني بالمرة,حتي ليقول علي عزت"علي هذا النحو كان الحيوان صائدا ممتازاً ,كذالك كان الإنسانُ البدائِي ,ولكنه كان في الوقتِ نفسهِ ,المخترعَ الذي لا يملُ ,صانع العباداتِ ,والأساطير والمعتقدات الخرافية ,والرقصات ,والأوثان .كان الإنسانُ دائِمَ التطلعِ إلي عالمٍ آخر ,عالم حقيقي أو متخيل .وليس هذا فرقاً في مراحل التطور ,وغنما هو فرقٌ في الجوهر.
إذن فإن المبدأ الوجودي الحيواني الأول يتباين مع المبدأ الوجودي الإنساني العام,فالكفاءة في الحيوان أقوي منها في الإنسان ,والعقلُ في الحيوان ـ من حيثُ هو عقلٌ مجرد ـ أكثر منه في الإنسانِ الذي تسيطرُ عليهِ معتقدات وخرافات ودين ومبادئ أخلاقية.
2ـ المنفعة:
يستشهد بيجوفيتش بقول"هـ .ج .ولز"في كتابه "التاريخ الموجز للعالم" ,حيثُ يقول:كان إنسان العصر الحجري الحديث عندما يحل موسم بذر البذور في الأرض,يعمد إلي تقديم تضحية بشرية,ولم تكن التضحية بشخصٍ قليل القيمة أو منبوذ  في المجتمع ,وإنما كان يختار عادة من بين أحسن الشبان أو الفتيات ,وكان يعامل باحترام إلي درجة العبادة...".
ويستشهد أيضاً بدراسات أخري تثبت وجود التضحية عند الإنسان البدائي "باللآلاف كل عامٍ في المكسيك",ويقرر عَلِي عَلَي حقيقة أن"وجدت التضحية في جميع الأديانِ بلا استثناء".
باختصار فإن الإنسان مبدأ من مبادئ وجوده العامه هو"التضحيه".
لذلك يقول بيجوفيتش"المنفعه ـ المصلحة ـ حيوانية ,أما التضحية فهي إنسانية ,التضحية هي إحدي المبادئ الساسسية في الدينِ والأخلاق" .
يقول بيجوفيتش"قارن بين تلك التضحيات التي كان يقدمها الإنسان البدائي,وبين الثعلب حينما يقعُ في المصيدة فيعض ساقهُ حتي يقطعها ليتمكنَ من الفرار .هذا عملٌ من اعمال العقلِ .أما ما يقومُ بهِ الإنسانُ البدائي من تمزيقٍ لجسمهِ ـ تضحيةً ـ فهو عملٌ لا معقوليةَ في .إنه سمه خارجه تمامً عن الإطار الحيواني".

*****
إن الفلسفة المادية التي تقول إن الإنسانَ هو ابن الطبيعةِ مخطئة في نظر بيجوفيتش إذ يتسائل"إذا كان الإنسانُ ابنٌ للطبيعةِ كما يقولون ,فكيف تسني لهُ أن يبدأَ في معارضةِ الطبيعة؟!".إنهُ يتسائل.
ويقولُ معقباً"إن الإنسانَ لا يسلك في حياتهِ كابنٍ للطبيعة ,بل كمغتربٍ عنها .شعورهُ الأساسي هو الخوف ,إلا انه ليس خوفا بيولوجياً كذلك الذي يستشعره الحيوان ,إنما هو خوفٌ روحيٌ بدائِي موصولٌ بأسرار الوجودِ الإنساني وألغازة.إنهُ خوفٌ ممتزجٌ بحبِ الإستِطلاعِ والإعجابُ والدهشةُ والنفور ,تلك المشاعر المختلطة التي تكمنُ,علي الأرجحِ ,في أعماقِ ثقافتنا وفنوننا كلها.
*****
يلازم بيجوفيتش بين الفن والدين والأخلاق عند الإنسان ويتسائل:لماذا لا يوجد عند الحيوان دينٌ وعبادات؟!.
بيجوفيتش لا يجد تفسيراً(عند الماديين) لظاهرة الحياة الجوانية عند الإنسان"والغير موجودة عند الحيوان"فهو يقرر"إن ظاهرة الحياة الجوانية أو التطلع إلي السماء ـ وهي نظرة ملازمه للإنسان غريبة علي الحيوان ـ هذه الظاهره تظل مستعصيةً علي أي تفسيرٍ منطقي ,ويبدو أنها نزلت من السماءِ"نزولاً حرفياً".ولأنها ليست نتاجاً للتطور ,فإنها تقف متعاليةً عنهُ مفارقةً لهُ".
ويعيد حقيقة ذكرها ـ هنري سيمل ـ يقول فيها"إن الحياة النفسية للإنسانِ البدائي لا تختلفُ إلا قليلاً جداً عن الحياة النفسية للإنسانِ المعاصر".
وأدرج مقولةً للشاعر السوفيتتي "فوزونسنسكي" يقول فيها"إن كومبيوتر المستقبل سيكون من الناحية النظرية قادراً علي عمل كل شئ يقوم به الإنسانُ فيما عدا أمرين:أن يكون متديناً وأن يكتب شعرا".
3ـ الجمال:
وكما برهن بيجوفيتش علي أن مبدأ الوجود الحيواني منافي لمبدأ الوجود الإنساني العام ,برهن أيضاً علي نوعٍ أخر من الإختلاف بين الحيوان والإنسان ,فكما أن الحيوانات ليست لديها فكرة عن المقدس أو الشر,فإنها لا تعلم شيئاً عن الجمال .والدراسات التي تشير أن القرود بإمكانها أن ترسم ,ثبت خطئها ,فممارسة القرود للرسم كان محاكاةً للإنسان.
علي العكس من الحيوان عرف الإنسان البدائي النقوش علي جدران المعابد والكهوف.وقد اكتشفت مجموهة من العلماء  آلات موسيقية ترجع إلي عشرين ألف سنه , بأوكرانيا.
يقرر علي عزت "إن رغبة الإنسانِ في تجميلِ نفسِهِ ,أقدم وأعجب من حاجته لتغطية جسمه وحمايته .هذه الحقيقة يمكن تتبعها من عصور ما قبل التاريخ حتي اليوم .فملابسنا ليست فقط للحماية ,إنها تعكس العصر الذي نعيشُ فيهِ والجماعة التي ننتمي إليها .لقد أصبحت أزياؤنا صوراً وشعراً".

"إن الدين والفن والأخلاق البدائية جميعاً ذات مصدر واحد :هو شوق الإنسان إلي عالمِ المجهول".
4ـ التمرد:
هكذا يمضي بيجوفيتش في التفرقةِ بين الإنسان والحيوان ,وكما أن الإنسان هو المضحي والذي يبحث عن العالم الأخر والذي يحب الجمال هو هو أيضاً الذي يتمرد"إن اختلاف الإنسان عن الحيوان يمكن أن يشاهد أيضاً في تمرد الإنسان ,فالحيوان لا يتمرد علي مصيره الحيواني .الإنسان وحده هو الذي يتمرد.إنه الحيوان الوحيد الذي يرفض أن يكون حيوانا".
اللعب:
"لقد اكتشف"يوهان  هُويزنجا" ظاهره أخري هي اللعب ؛فالحيواناتُ تلعب ,إلا أن وراء لعبها احتياجات بيولوجيه كاللعب الجنسي أو لتعليمِ الصغار ...وهكذا,إنه لعبٌ غريزي وظيفي .أما لعب الإنسان فهو لعبٌ حر ,لعبٌ غير ملتزم ,يتضمن دائماً وعياً باللعب مما يعطيه معني روحياً نم الجدية والرزانه,أو(استهداف مالا هدف لهُ)".
ينهي بيجوفيتش ذالك الإختلاف بين الإنسان والحيوان بتلك الحقيقة"حتي وقتٍ قريب ,كانت نظرية "داروين"تُعتبر هي التفسير النهائي لأصل الإنسان ,مثلما كان يعتقد أن نظرية "نيوتن" هي النظرية النهائيه بالنسبه للكون.ولكن لما اصبحت فكرة "نيوتن"الميكانيكية عن الكون مشكوكاً في صحتها ,كذالك أصبحت نظرية"داروين" عن الإنسان في حاجه إلي تجديد.فنظرية التطور لم تستطع أن تفسر بطريقة مقنعه ظهور التدين في الحياة البشرية .ولا وجود هذه الظاهره في العصور الحديثة.لماذا يصبح الناس نفسياً أقل شعوراً بالإكتفاءِ عندما تتوافر لهم متع الحياة المادية أكثر من ذي قبل ؟لماذا تزداد حالات الإنتحار  والأمراض العقلية مع ارتفاع مستويات المعيشه والتعليم؟ولماذا لا يعني التقدم مزيداً من الإنسانية أيضاً؟إن العقل ما إن يقبل برؤية"داروين"و"نيوتن" وهي رؤية محدده شديدة الوضوح يصعب عليه رفضها .فعالم"نيوتن" ثابت ومنطقي ودائم,وكذا إنسان"داروين"بسيط ذو بعدٍ واحد ,إنه يكافح من أجلِ البقاء,يُشبع حاجاته وأهدافه من أجل عالم وظيفي .لكن"أينشتين"هدم وَهمَ "نيوتن".كما ان الفلسفة التشاؤمية وإخفاق الحضارة يفعل الشئ نفسهُ بصورة الإنسان الدارويني".
"ليس الإنسانُ مفصلاً علي طرازِ داروين ,ولا الكون مفصلاً علي طراز نيوتن".هذه هي النهاية.
عبدالرحمن ناصر.
الإثنين.
14/11/2011م.
08:07ص.